Advertise here

الديمقراطية في نظر كمال جنبلاط

01 حزيران 2021 19:47:57 - آخر تحديث: 01 حزيران 2021 20:22:27

كتب العميد الدكتور رياض شـيّا:

قد تكون الكتابة في الديمقراطية عملاً فيه شيء من الرتابة، لكثرة الذين كتبوا فيها، وكثرة ما كتب عنها، وما أمعنوا وعالجوا فيها من زوايا متعددة. لكنّها قليلة نسبياً تلك التي تناولت معالجة كمال جنبلاط للديمقراطية ونظرته اليها. وهذا الأمر بالذات كان الدافع وراء هذه المحاولة، مع العلم المسبق أنّها لن تكون الأخيرة، ولن تكون الشاملة. فالذي يقترب من فكر كمال جنبلاط، كمن يقترب من بحرٍ مترامي الأطراف وبعيد الأعماق، كي ما تدرك أبعاده ونهاياته. فإذا ما اقتربتَ من أحد شطآن فكره الشمولي، محاولاً إدراك أحد موضوعاته، تجدك مدفوعاً الى البعيد والعميق، فترى نفسك أمام عالم أكثر واقعية وأشد عقلانية وأكثر اقتراباً من الحقيقة، التي كان يراها هو ساطعة كالشمس. من هنا كانت المحاولة تفرض ارتياد رحلة معرفية بعيدة وعميقة، وصولاً إلى حيث تكتشف قدراً من الحقيقة التي ستبقى نسبية بقدر زادك من المعرفة. وهكذا سنسلك معه درب الديمقراطية الجديدة التي شادها على ركام الزيف الذي ألقي عليها في مسيرتها الطويلة، منذ بداياتها، فابتعدت الشعوب والأفراد عن روحها الحقيقي.

ولمّا كانت الديمقراطية هدفاً سامياً تسعى اليه الشعوب للتعبير عن سيادتها ولكفالة حقوق أفرادها، لتكون أملاً بتحقيق حياة أفضل حرة وكريمة، فإنّها قد ارتبطت منذ القدم بفكرة الحرية. وأول صورها ظهرت كنظام للحكم في المدن الإغريقية، ولا سيّما في أثينا. وكلمة ديمقراطية مشتقة في اللاتينية من دمج كلمتي (Demos أي الشعب، وCratos أي حكم) التي تعني حكم الشعب، أي استبعاد الحكم الاستبدادي. وهذا النموذج الأصلي من الديمقراطية، لم يكن يومها متاحاً إلاّ لمجموعة محددة من سكان المدينة – الدولة، الذين ينطبق عليهم وصف "المواطنون الأحرار"، مستثنين في ذلك النساء والعبيد، في الوقت الذي كانت تطبّق فيه الديمقراطية المباشرة التي تعتمد الأكثرية في قراراتها. ومن ثمّ سارت الديمقراطية في رحلتها قُدماً، فتطورت الى الديمقراطية التمثيلية وبأشكال متعددة، ولتنتشر بعد الثورة الفرنسية عام 1789 في كثير من دول أوروبا والعالم، معتمدة القيم الليبرالية التي كان ينادي بها الفلاسفة والمفكرون في عصري الأنوار والنهضة كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الأفراد.

لكنّ الإقبال على الديمقراطية أخذ أشكالاً مختلفة، ومتناقضة أحياناً كثيرة مع أصولها، سواء بسبب القصور في إدراك وفهم جوهرها، أو بسبب استخدامها للتمويه على بعض أنظمة الحكم   لإضفاء الشرعية الشعبية عليها. فقد حاول منظّرو الأنظمة الكلّية تزيين تزيِّ أنظمتها الدكتاتورية بالديمقراطية كما لو أنّه خدمة للأمة أو للبروليتاريا، كما في النظام النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا وإسبانيا، والنظام الماركسي في الاتحاد السوفياتي والصين وغيرهما. أما الأنظمة الليبرالية في الغرب، وهي الأقرب الى النموذج الديمقراطي، فقد وصلت بها الرأسمالية الى حدود الإساءة الى الديمقراطية نفسها بخيانتها لمبادئ المساواة في بعديها الاجتماعي والاقتصادي. ولكمال جنبلاط آراء حادّة ترفض كل الانتهاكات التي تعرض له مفهوم الديمقراطية، وتدين السلوك المضلل والغوغائي في الشرق كما في الغرب. وهكذا سنرى أنّ مفهوم كمال جنبلاط للديمقراطية يبدو مختلفاً عما هو تقليدي وسائد، حتى أنّه يذهب بها الى أبعد من المفهوم الكلاسيكي المتداول في الأوساط الأكاديمية.

 في تعريفه للديمقراطية بدايةً، يستعير جنبلاط من الفيلسوف الفرنسي برغسون قوله "إنّ الديمقراطية الحقيقية هي مبدأ توحيدي، عقلاني بحت"، على اعتبار أنّ الأنظمة الديمقراطية، كما يراها برغسون، تقوم على الامتثال الطوعي لتفوق العقل والفضيلة، متناقضةً في ذلك مع    الأنظمة الأخرى المبنيّة على القوة أو العاطفة أو التقاليد.

 من هذا البعد التوحيدي والعقلاني للديمقراطية، يرى جنبلاط أيضاً مع المفكر الفرنسي لوفور Lefûr، في كتابه "الشريعة وقضاياها الكبرى"، أنّ الأسس الأولية التي قامت عليها الديمقراطية المعاصرة تكمن في حرية الإنسان والمساواة الطبيعية بين البشر، وذلك لأنّ الإنسان يتمتع بروح خالدة ولا يخضع ضميره لأي سلطة بشرية، والناس متساوون بحكم طبيعة وجودهم المشترك مهما كانت صفتهم، أحراراً أم عبيداً، إغريقاً أم برابرة، ويهوداً أم وثنيين.

إلاّ أنّ هذه المساواة في الحق والجوهر تترافق مع تنوعٍ مذهل بين البشر على الأصعدة العقلية والأخلاقية والجسدية. فالإنسان، على قول هكسلي Huxley، هو الى حدٍّ بعيد النوع البرّي الأكثر تقلباً. فيعتبر جنبلاط هذا التنوع مرتبطاً بنمط التطور الإنساني وبدور البيئة المادية المحيطة بالإنسان. لكن برغم ذلك يذهب مع برغسون ولوفور الى اعتبار أنّ الديمقراطية الحديثة هي رسولية في جوهرها، وأنّ المحبة هي دافعها وليس الإكراه.

من هذا الفهم لجوهر الديمقراطية، يرى جنبلاط أنّ الديمقراطية في بعدها الاجتماعي تعني الأخذ بمبادئ العدالة الاجتماعية في تنظيم قيم الجماعة وتكوين تراتبيتها ونخبها وقياداتها. فيراها مجتمعاً اشتراكياً خالياً من الطبقات الاجتماعية، لأنّ التفوق الاجتماعي والفضيلة، برأيه، لا يفترضان التكتل ضمن تجمعات أو طبقات تدافع عن مواقعها وامتيازاتها. فالنخبة الحقيقية تستمد مكانتها القيادية من قوانين التطور البيولوجي-الاجتماعي، أي من جوهر الحياة نفسها، التي دفعتها الى المرتبات الأولى، كما حددت لها شروط انحلالها وتساقطها. فالفرديات القوية والشخصيات الخلاّقة هي مصدر فعل التقدم في المجتمع، وهي التي فعلت في التاريخ والحضارة، فهي الأساس الفاعل والخميرة في المجتمع. لذلك يرى أنّ الديمقراطية السياسية والاجتماعية قد جرى تشويهها وانحرافها تحت تأثير الأفكار المسبقة على صعيد المساواة البرلمانية القائمة وسوء تفسير وتشويه نظرية السيادة الشعبية. فقد رأى أنّه من الواجب السعي الى تحقيق ديمقراطية اجتماعية صحيحة تسمح بإبراز القيادات الحقيقية من خلال بنية تنظيمية فاعلة على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وتكريساً لذلك جرى النصّ في ميثاق الحزب التقدمي الاشتراكي، في تحديده لبنية هذا النظام، بوجوب ارتكازه على المساواة الجوهرية في الحقوق والواجبات، كمبدأ مثالي يحدد جوهر الديمقراطية، ويبنى على العدالة المستوحاة من الإخاء والتعاون والتضامن، وعلى احترام جميع حريات الفرد المحدودة بحريات الآخرين وبمقتضيات الخير العام، وعلى المساواة السياسية بين المواطنين التي تأخذ بعين الاعتبار قيمتهم وإمكانية انتفاع المجتمع بهم.

إنّ مبدأ المساواة الوظيفية، برأي جنبلاط، مبنيّ على التفاوت الطبيعي بين البشر، أي بمعنى آخر مبدأ الانتخاب والاختيار القائم في الطبيعة، على عكس مبدأ التجمع الفوضوي ونظرية العدد. فهذه المساواة التي يرقى اليها النظام ترتكز على "وضع معتدل متوازن آخذ بالتنوع في الوحدة وبالفردية النازعة الى تحقيق الشخصية"، كما ينصّ الميثاق أيضاً. فالتنوّع في الوحدة، في قول جنبلاط، هو من المستلزمات الأساسية في الطبيعة. ويتعاكس هذا المبدأ مع النظرية الكلية الهادفة الى عملية توحيد وتجانس وتبسيط مصطنعة للأطر الحياتية. لذلك يعلن جنبلاط رفضه لأي نظرية تدعي إمكانية إخضاع التعقيد الاقتصادي-الاجتماعي لصيغة أحادية المعنى تهدف الى صهر الوقائع كلها وبأي ثمن في إطار هذه الصيغة. ولتعزيز فكرة التنوّع في الوحدة، يدعو جنبلاط في الميثاق الى "الفردية الشخصانية" وذلك للتميّز عن الديمقراطية التجمعية التي تأخذ في حسابها الفرد وليس الشخص. فالفرد برأيه ليس سوى "إمكانية بسيطة" قياساً بالشخص "الذي هو الفرد المنصهر في المستوى الاجتماعي وعبره في التراث الحضاري أي في المستوى الإنساني". وعملية تكوين "الشخص"، برأي جنبلاط، هي بالتحديد "رهان" العالم. فعلى ضوء هذه الحقيقة، يرى جنبلاط الخطأ الأساسي والمأساوي الذي ترتكبه الديمقراطية التجمعية (ديمقراطية العدد)، التي لا تأخذ بعين الاعتبار لا المستوى الاجتماعي ولا "الشخص"، بل الفرد، كونه وحدة في عدد لا يحصى في الوحدات الشبيهة ببعضها.

ورغم التنوّع وإبراز قيمة الشخص، يدعو جنبلاط في الميثاق الى "تضامن أخوي نتيجة للتخصص الوظيفي ولترتيبٍ مرتكزٍ على المواهب بين المواطنين"، فيعتبر هذا التضامن هو صيغة الانصهار الفضلى في العالم الذي يشهد سيطرة متصاعدة للآلة، وهي التي بنى عليها دوركهايم مدرسته الاجتماعية، والذي يقول "إنّ ارتهان الفرد للمجتمع يتزايد كلما ازداد تقسيم العمل".

هذا التضامن الذي لا بد له من أن يترجم في مؤسسات الدولة التي ستوفر وتؤمّن العدالة الاجتماعية، فتسمح للديمقراطية الاجتماعية بالتوسع الى الديمقراطية الاقتصادية التي تأخذ بعين الاعتبار ضرورة الحفاظ على الملكية الفردية، التي تعتبر مرتكزاً للحرية السياسية وللحرية المهنية والأخلاقية.

والعدالة الاقتصادية هي على رأس قائمة العناصر الضرورية لإنشاء ديمقراطية اجتماعية، إذ أنّ أفكار العدالة والإخاء والمساواة، التي هي ملح الأرض، على حدّ تعبير جنبلاط، هي صيغ يجب أن تتحقق في المستوى الاجتماعي، وأن يعيشها الفرد في حياته الزمنية، لا أن تبقى صيغاً نظرية. فالديمقراطية الاجتماعية ومؤسساتها الجماعية سوف تنمو في إطار ديمقراطية اقتصادية تعمل على تأمين الخبز والعمل ضمن العدالة والحرية. وعندها سيتحوّل شعار "لا حقوق ولا امتيازات دون واجبات مقابلة" من شعار فارغ الى حقيقة قائمة. وعندها أيضاً يكفي الديمقراطية الاجتماعية المبدأ الضروري القائل "بتأمين تكافؤ الفرص والامكانيات بين المواطنين لتتمكن المواهب الفردية المتفاوتة على صعيد الذكاء والأخلاق من أن تبرز وتنمو بشكل طبيعي". فيصبح العمل مقياساً لكل تقسيم وتراتبية، وبهذا المفهوم يعاد رفع شأن العمل وتطهيره من الشوائب التي رافقته عبر التاريخ. هكذا رأى كما جنبلاط "العمل، شرعة الحياة البشرية ونبالتها، وهو الشرط الجوهري لإمكانية الإنتاج والجدوى في المجتمع. فمن يقدر ولا يعمل لا يحق له أن يأكل".

وبهذا الفهم للعمل تكون الديمقراطية الاقتصادية قد وفّقت بين حقوق الشخص وحقوق المجتمع، وبين مبدأ العدالة ومبدأ الحرية: "الخبز والعمل من ضمن العدالة والحرية".  وهكذا تصبح الديمقراطية الاقتصادية إحدى الأسس الجوهرية للديمقراطية الاجتماعية. فالمساواة والحرية، كي يصبح لهما مضمون عملي ولا تكونان وهماً، يجب أن تبدأ بالخبز والعمل.

إلاّ أنّه بالإضافة الى هذا البعد الاقتصادي الأساسي في الديمقراطية الاجتماعية، لا بد من أن ينضاف إليها مجموعة من الشروط الضرورية كتأمين العناية الصحية والجسدية لكل المواطنين، والمحافظة على بيئة سليمة، وأن تكون المعرفة والتربية في متناول الجميع. "فتحقيق وتأمين هذه العناصر هو مسألة أساسية، إضافة لإيجاد نظام سياسي ملائم ليكون هناك تكافؤ بالفرص والإمكانيات ولتتأمن العدالة والنزاهة في المنافسة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وفي الصراع من أجل الحياة ومن أجل مكانتنا في هذ العالم".

إنّ شرط وجود نظام سياسي ملائم لتحقيق الديمقراطية الاجتماعية، كما رأينا، يقودنا الى التعرف الى الديمقراطية السياسية كما يتصورها كمال جنبلاط. ففي فهم عميق لجوهر الديمقراطية، انطلاقاً من فهمه للإنسان وللوجود، يعتبر أنّ الديمقراطية هي الوضع الطبيعي الذي يجب أن يكون في البشر. وانطلاقاً من تعريفه لها الذي بدأنا به هذ البحث، هي كما ردد برغسون "مبدأ توحيد عقلاني بحت"، أي أنّها مشروع ينطلق من العقل. فيرى جنبلاط أنّه في إطار العقل La Raison بمفهومه القديم الأصلي الذي حدده فيثاغورس وأفلاطون، حيث تصبح الحكمة تكويناً وحدساً للإدراك الصرف، فإنّ السياسة، أي فن قيادة البشر، تصبح عملاً إنسانياً نبيلاً. والديمقراطية السياسية هي فعل انسجام، إذ أنّ الكون برأيه ليس إلاّ فعل انسجام، والانسجام هو محور أي شيء، وهو أساس الحرية. والحرية هي قانون الكيان العميق، وقانون كل كيان. ذلك أن لا وجود للتعارضات والصراعات والازدواجية في باطن الأشياء وأعماقها. ولا وجود للتنوّع إلاّ على مستوى معين من المعرفة في "قطعة صغيرة جداً" من الكيان.

ومن هذا الفهم العميق للكيان الإنساني، يرى جنبلاط أنّ السياسة هي، في واقعها، تنظيم لهذا التنوّع في المجتمع البشري. أما لعبة التعارضات والصراعات والازدواجية الظاهرية فتخفي الانسجام الأصلي للكيان. إذن، فالديمقراطية السياسية كما يراها جنبلاط، هي انعكاس لهذا التنظيم، وتكاد تكون نوعاً من العودة الى "الانسجام" الملازم للأشياء، ونوعاً من التعبير الخارجي لحرية الكائن.

وهكذا، فمن كون الديمقراطية السياسية هي عمل عقلي، عمل الانسان المدرك، يعتبر جنبلاط أنّه يجب بناء ديمقراطية تقدمية حقيقية تعني الشخص وليس الفرد، لأنّ الفرد يشكل نقطة الانطلاق وليس نقطة الوصول، ولأنّ الفرد وسيلة وليس غاية، وهو بالنسبة للشخص نوع من الامكانية البحتة. والشخص بلغة أرسطو، هو الفرد في حقيقته وجوهره. والشخص في هذا الإطار هو الدائرة المحورية التي يدور حولها دولاب الديمقراطية. وعليه، فإنّ كل مشروع بناء لديمقراطية جديدة وسليمة يجب أن يكون هدفه الانسان، وليس الفرد.

وهنا يسأل كمال جنبلاط، ما هو الدور المحدد للديمقراطية في إطار هذا التحديد لتطور الفرد باتجاه "الشخص" على ضوء روح التجرد والامتثال الطوعي للقوانين؟ فيجيب، إنّ على الديمقراطية ان تغرس في الانسان – المواطن روح الواجب الحقيقية، وتوضح له المدى الفعلي والغاية العليا لحقوقه كما أن تحدد له تكامل حقوقه مع واجباته. وبهذا المعنى ستكون الديمقراطية بالفعل نظاماً "لتمهيد الأنا" ومحاولة لترفيع الانسان... إنّ الديمقراطية السياسية سوف تكون هذا التيار التجديدي الذي يهدف بواسطة المؤسسات الى إعادة آدم الى ما كان فعلاً عليه قبل سقوطه في "الأنا". فكيف ينظر كمال جنبلاط الى هذه المؤسسات؟

يبدأ جنبلاط تصوره للمؤسسات السياسية، كونها أجهزة هذه الديمقراطية السياسية، بشكل الدولة بدايةً. الدولة العلمانية هي المطلوبة، وهي التي ستكون جوهر هذه البنى والمؤسسات. لكنّ هذه العلمانية، كما يراها، ستكون علمانية أخلاقية، جوهرها ديني – وليس شكلها – فتحترم "حرية المعتقد" وتنطوي طبعاً على مفهوم "إلغاء الطائفية السياسية".

ويتابع جنبلاط عملية بناء مؤسسات النظام السياسي الديمقراطي، بضرورة إعلان ميثاق جديد يتضمن حقوق وواجبات المواطن. بل على الميثاق، وكنتيجة طبيعية له، إعداد دستور يكون بمثابة "الضمانة" للحقوق والواجبات المعلنة في الميثاق ويرتكز على المبادئ التي من شأنها ضمان ممارسة فعلية لهذه الحقوق وتحقيق فعلي لتلك الواجبات. ويأتي مبدأ فصل السلطات على رأس قائمة هذه المبادئ. وسوف يُفهم ويطبق فصل السلطات بروحية جديدة تعني:

1-   قيام سلطة قضائية حقيقية متساوية بالحق والفعل مع السلطة التنفيذية ومستقلة تماماً عنها، ومهمتها المراقبة الفعلية لأعمال هذه السلطة خاصة بواسطة النظر في دستورية المراسيم والقوانين. ويرى جنبلاط، أنّ الذي يضمن حرية المواطن الفعلية ليس المؤسسة البرلمانية، بل سلطة قضائية قوية ومستقلة ذاتياً، مجسدةً عملياً سلطة الدولة المطلقة. فبرأيه، كم من مجالس تمثيلية (برلمانات) تحوّلت الى أدوات مطيعة لدكتاتورية معينة أو لنظام قائم على العنف بسبب فقدان الضمانات التي يقدمها هكذا قضاء، كما كان الحال في الاتحاد السوفياتي أو كما هو الحال في بعض البلدان العربية.

2-   تقوية وتثبيت السلطة التنفيذية الى حدٍّ ما على حساب السلطة التشريعية، على اعتبار أنّ الذي يحكم ويبدع هو الذي توفرت فيه صفات القائد حيث لديه انسجام وتعادل المسؤولية السياسية والأخلاقية من جهة والعبقرية الخلاّقة من جهة أخرى. ويرى جنبلاط أنّ حكومة "المجالس والأكثريات" لا معنى لها، وهي نوع من الخدعة. فالحكومة القائمة على هذا الأساس لن تكون سوى حكومة الضعف والرداءة. فالنخبة فقط مقدر لها أن تفعل أشياء وأعمال كبيرة على صعيد الدولة والحضارة. ويتساءل جنبلاط، أليست السيادة الشعبية التي تمثَّل بأسلوب "الانتخاب العام" نوعاً من الخدعة هدفها إرضاء أنانية الذين يُنتخَبون ويقبلون؟ فيسارع للقول إنّ هذه الخدعة تحجب جزئياً الدور المؤثر الذي يلعبه بعض المنبثّين بين الجماهير تقتصر مهمتهم على ترجمة ارادات هؤلاء المتنوعة؟

3-   أمّا التمثيل الشعبي فيُفترض أن يتطور أكثر فأكثر باتجاه تأمين "تمثيل النخبة والهيئات المهنية والاقتصادية والمعنوية تمثيلاً موافقاً في المجالس، تمكيناً للأكفّاء من تولي الحكم". لذا سيكون المطلوب وجوب البحث عن صيغة مختلفة "للتفويض"، تكون متلائمة أكثر مع مصالح ومتطلبات إدارة الأمة. إنّ صيغة كهذه تفترض قيام "نظام معتدل ومتوازن"، أي: "لا أنظمة كلية ولا فوضوية، بل شورى ديمقراطية عليها واجب الإشراف التوجيهي غير المتحكم ولا المستأثر في كل النشاط الشعبي العملي".

وهذا يعني تثقيف الشعب سياسياً واجتماعياً، بغية التوصل الى وضع ديمقراطي بفضل تنمية رابطة محض اختيارية.

4-   اعتبار المجتمع ليس مجموعة أفراد فقط بل كلاً عضوياً حيويته في تنوّعه، لكل عمل فيه كرامته، ولا أفضلية لمهنة على مهنة إلاّ في تأمين انتظام المجتمع واستمراره وترقيه.

5-   مكافحة الطبقية والإقطاعية والتمهيد لقيام القيادات الصحيحة، وإيقاظ الشعور بالتضامن والمسؤولية الاجتماعيين.

وفي تصور جنبلاط لتطبيق الديمقراطية بصورة صحيحة، يعتبر أنّ الديمقراطية السياسية الحقيقية هي حكم القانون، بما يتوافق مع حقوق الإنسان وواجباته. وهذه الحقوق تتطور مع الزمن لتبرُز في أوضاع متكاملة، فتعكس أكثر فأكثر وجوه حقيقة الإنسان. والحفاظ على هذه الديمقراطية، لا يتحقق إلاّ في ظروف ملائمة، أهمها:

- أن يكون من يتسلم مسؤولية الحكم في مستوى هذه المسؤولية كي لا يفلت زمام الحكم من يده.

- وعلى المجلس النيابي بشكل خاص، والحكم المنبثق منه، أن يكونا في وضع من الكفاءة والقدرة على العمل والجرأة في مواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، ما يمكّنهما من القيام بأعباء التشريع والحكم كما يتوجب.

- قيام أجهزة حكومية سليمة يشتد بها على الدوام التطهير وتصفّيها الملاحقة، وترفع الحصانة عن الموظفين والمسؤولين مهما كانت صفتهم والموقع الذي يحتلونه. فبدون التوجيه والعقاب والتطهير لا يمكن أن يستقيم حكم، ولا تصلح أجهزة.

وختاماً يرى جنبلاط، في تأمله لواقع الأنظمة السياسية في محيطنا العربي مقارنة بلبنان الديمقراطي الذي يحلم به، أنّه وسط عالم عربي مشحون بالتناقضات، ويسيطر عليه حكم لا ينتسب الى حكم القانون ولا الى حكم الشعب، بل الى الانقلابات العسكرية المستمرة أو الى النظام الأوتوقراطي الملكي، تبدو هذه البقعة الصغيرة، كأنّها بقية باقية من حلمٍ غابرٍ أو استباقاً – على نطاق صغير نسبياً طبعاً – لما ستكون عليه الديمقراطية في عالم الغد.

(*) أستاذ جامعي وباحث في القانون الدولي والدستوري