بين الذّعر الأوروبي والانبطاح الأميركي نواة النّصر الاستراتيجي لإيران

23 أيار 2021 14:14:24

تضاعف التمهيد لإحياء الاتفاقية النووية مع إيران ورفع العقوبات عنها تدريجيّاً، بعدما تم احتواء النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. فإسرائيل تفادت اجتياح غزة برّاً الذي كان سيؤدي الى فتح جبهات لبنان وسوريا وإيران، لو فعلت. إيران لجمت "حزب الله" وضمنت تحييده عن حرب الصواريخ بين "حماس" وإسرائيل كي يبقى قوة عسكرية غير نظامية إقليمية وليس فقط لبنانية، فهو ورقة طهران الثمينة. إدارة بايدن غضّت النظر عن المساعدات الإيرانية العسكرية والصاروخية الى "حماس" كي لا تَضطر لِمواجهة طهران بأي شكل كان في خضم المفاوضات النووية في فيينا.

بعض الدول العربية، في مقدمتها مصر، لعبت دوراً أساسياً في التوصّل الى وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس"، فاستعادت دورها وذكّرت بأنها ليست هامشيّة. "حماس" نجحت في تأجيج العاطفة الشعبية احتفاءً بوصول صواريخها الى تل أبيب ودب الرعب في قلوب الإسرائيليين. لكن "حماس" فشلت في سعيها وراء استراق القيادة من السلطة الفلسطينية، وفشلت في تهميشها. كما أن الفلسطينيين داخل إسرائيل تمكنوا من إثبات أهميتهم المركزية عبر الإضراب والاحتجاج والتماسك في إبلاغ إسرائيل أن استفاقة عرب إسرائيل - وفلسطينيي الضفة الغربية - قد وَضعت العصا في دولاب مشاريع إبعادهم قسرياً لمعالجة ما تعتبره إسرائيل المشكلة الدِيموغرافية التي تحول دون تنفيذ مشروع يهودية إسرائيل "النقيّة" من الفلسطينيين. فلِمَن كان النصر العابر؟ ومَن يستثمر في الانتصار الاستراتيجي؟

النصر العابر هو، حالياً، لكل من "حماس" ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي أنقذ نفسه سياسياً وورّط إسرائيل. فإسرائيل واجهت حملة غضب عارم عالميّاً، بالذات داخل الولايات المتحدة، لما ارتكبته من فظائع في حربها على غزة برغم عدم إعفاء "حماس" من المسؤولية. نتنياهو عرّى إسرائيل وانتشل نفسه من المأزق.

نتنياهو مزّق الانطباع بأن إسرائيل قوة إقليمية خارقة فبدت في حربه مع "حماس" نمراً من ورق. وأمام الكمّ الهائل من صواريخ "حماس" التي لا نعرف كيف تمكّنت من الوصول الى غزة الفقيرة، ومَن سدّد نفقاتها، وماذا كانت وسائل وصولها، انقلبت مقاييس الانطباع ومقاييس الحِسابات العسكرية. إنه نصر عابر وزائل لبنيامين نتنياهو مهما كابر وزعم العكس.

"حماس" بدورها حقّقت انتصاراً سطحياً عابراً، ليس فقط لأن صواريخها أدّت الى الانتقام بتدمير غزة وَقتل 65 طفلاً و40 امرأة و25 مسنّاً على يد إسرائيل، بل لأن تحجيمها هو اليوم قرار أميركي وإيراني وأوروبي وعربي وفلسطيني. فمهما امتلكت من صواريخ، "حماس" لا تملك مفاتيح قيادة الفلسطينيين، لا أولئك داخل إسرائيل والضفة الغربية، ولا هؤلاء المساكين في غزة الذين يعيشون في ذل الفقر فيما قيادتهم تستثمر في صواريخ العنفوان لمصلحة الآخرين على حسابهم.

عابر هذا الانتصار، لأن الرئيس الأميركي جو بايدن تعمّد الإعلان أن المساعدات الأميركية لإعادة بناء غزة ستُقدّم للسلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس، وليس عبر "حماس". كذلك فعلت مصر، إذ قنّنت دعمها لغزة وليس لـ"حماس".

القيادة الإيرانية اتخذت قراراً استراتيجياً بترك "حماس" وحيدة في حربها مع إسرائيل ولجمت "حزب الله" والجبهة السورية، حرصاً على أولويات الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي في عمقها ليست فلسطين بل هي إحياء الاتفاقية النووية، ورفع العقوبات عن إيران، وبناء علاقات مميّزة مع كل من الولايات المتحدة والدول الأوروبية. لذلك قرّرت طهران أن فيينا اليوم أهم من غزة وفلسطين برمّتها. فهي تستثمر في الانتصار الاستراتيجي.

هذا الانتصار الاستراتيجي للجمهورية الإسلامية الإيرانية لا يعني أبداً أنها قرّرت الاستغناء عن أدواتها الإقليمية، بما في ذلك "حماس" أو استخدام القضية الفلسطينية. إنها تمارس الانتقاء الاستراتيجي لتضمن موقعها النووي ورفع العقوبات كخطوة أولى، لا سيّما أن مفاوضات فيينا لبّت طهران باستبعادها مسألتَي الصواريخ والسلوك الاقليمي، أي السياسة الخارجية الإيرانية التي يصنعها ويُشرف على تنفيذها الحرس الثوري الإيراني.

طهران مُرتاحة جدّاً لما يجري في فيينا. ليس واضحاً إن كانت إدارة بايدن ستبدأ برفع العقوبات بعد أسبوعين كما يتردد، أو أنها ستؤجّل ذلك الى ما بعد الانتخابات الإيرانية خشية أن يفوز الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد بالرئاسة، وهو المعروف بتشدّده ضد الولايات المتحدة. الواضح أكثر هو أن فرص المعتدلين بالفوز بالانتخابات الرئاسية ضئيلة. وبرغم ذلك، فإن إدارة بايدن والحكومات الأوروبية عازمة على إبرام الصفقة حتى ولو كان مع أقصى المتطرّفين أو مرشح الحرس الثوري الذي تزعم واشنطن والحكومات الأوروبية أنها تُصنّف قياداته ونشاطاته وأدواته في خانة "الإرهاب". فأوروبا مهووسة بالذعر النووي من إيران، وإدارة بايدن تتلاقى مع أوروبا في ذلك الهوس. وكلاهما يرضخ لطهران مذعوراً.

زيارة الرئيس بايدن لأوروبا في 11 حزيران (يونيو) فائقة الأهمية له، وهو يتمنّى لو يكون في الإمكان إتمام الصفقة النووية تزامناً مع زيارته، حتى ولو تم تأجيل وضع الختم النهائي عليها الى ما بعد الانتخابات الإيرانية. لكن العلاقة الأميركية - الأوروبية بحد ذاتها لها أولوية مميّزة لدى إدارة بايدن التي تعتبر أوروبا حاجةً ضرورية وأساسية للسياسة الخارجية الأميركية التي باتت تتخذ عمليّاً شعار "أميركا وأوروبا أولاً". بايدن يريد العودة الأميركية الى أوروبا كاملة، ويريد تعزيز حلف شمال الأطلسي. يريد الانقلاب كليّاً على سياسة سلفه دونالد ترامب. وهذا كلام يعجب القارة الأوروبية التي وُصِفَت سابقاً بـ"القارة العجوز"، وهي اليوم في زمن بايدن تتصابى بابتهاج.

أوروبا جاهزة لدفع الثمن السياسي لسياسة استرضاء إيران بخضوع تام، بعدما حرّرتها إدارة بايدن من القيود التي فرضتها عليها إدارة ترامب. أوروبا تركّز قطعاً على ذعرها من امتلاك إيران السلاح النووي، مع أنها تدرك أن لدى إيران اليوم المعرفة النووية التي تمكّنها من امتلاك القنبلة النووية. تعرف أوروبا تماماً أن النظام في طهران لن يتخلّى عن عقيدته التوسعيّة ولا عن نشاطاته الإقليمية، بل ولا عن أذرعه الممتدّة في أوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا.

الجمهورية الإسلامية الإيرانية واضحة في إبلاغ كل من يهمه الأمر أنها لن تتغيّر ولن تعدّل سياساتها الإقليمية أو الدولية، وأنها لن تتخلّى عن طموحاتها النووية التي تقول إنها ستبقى مدنية. إدارة بايدن، كما إدارة أوباما، كما الحكومات الأوروبية قرّرت أن الخوف من إيران النووية أكبر من خطر ممارسات النظام الإيراني، إن كان تجاه الشعب الإيراني أو في توسّعه خارج حدوده عسكريّاً وعبر الميليشيات التابعة لأوامره.

أثناء الحلقة الافتراضية 35 لقمّة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي تطرّق وكيل وزير الخارجية الأميركية السابق ديفيد هايل الى هذا المنطق عندما قال: "من وجهة نظر هذه الإدارة، تصوّروا كم كان الأمر سيكون أسوأ لو امتلكت إيران السلاح النووي. إننا نعرف ما هي حوافزهم لجهة نشر الفوضى ومحاولة تدمير إسرائيل، والدول الخليجيّة، والولايات المتحدة. فماذا لو كانوا يمتلكون السلاح النووي؟ كم كان ذلك سيكون أكثر سوءاً"؟

النائب اللبناني المستقيل ميشال معوّض تحدّى منطق ديفيد هايل وقال إن الصفقة النووية JCPOA التي توفّر لإيران الأموال برفع العقوبات "ستعزّز وتحفّز وتعطي الجرأة لإيران لتستثمر أكثر في فيلق القدس الذي سيدفع المنطقة الى المزيد من اللااستقرار - وبالطبع أتحدّث عن لبنان الذي هو البؤرة الزلزالية epicenter للنموذج الإيراني لأن أكثره قوة هو حزب الله". وزاد: "إنني قلق كعربي، وكمواطن في هذه المنطقة، وكلبناني. وأنا أشعر أن لبنان ينزلق ونحن على بعد أسابيع أو شهور قليلة من الانهيار التام".

نورمان رول الذي خدم في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA وأدار برامج تتعلّق بالشرق الأوسط شارك في الحلقة 35 أيضاً. رأيه هو أن الصفقة النووية آتية بالتأكيد، لكن المشكلة هي "أن لا الولايات المتحدة، ولا الاتحاد الأوروبي، ولا الأسرة الدولية طوّرت خطة لصدّ المنطقة الرمادية في (نيات) إيران ونشاطاتها الإقليمية ما بعد الصفقة، أو أنها تطرّقت الى الواقع بأن أي صفقة نووية ستسمح لإيران بزيادة كميات الموارد التي تقدمها الى "حماس" والجهاد الإسلامي الفلسطيني وغيرها".

السفير الروسي الأسبق في السعودية، أندريه باكلانوف، قال شيئاً لافتاً وصريحاً وهو "لديّ شكوك قويّة بأن القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية تلعبان لعبة سريّة... ويبدو لي أن الإسرائيليين سعداء بـ"حماس" لأن سياسة "حماس" تعطي الفرصة للمتطرّفين للشعور بالقوة داخل المجتمع الإسرائيلي". رأيه أن من الأفضل عدم التفكير "بزج إيران في الزاوية، ما يدفعها الى استغلال مختلف الفرص، بما في ذلك النشاطات السريّة ونشاطات القوات غير النظامية". رأيه هو "الأفضل أن نتعايش مع إيران بدلاً من مناهضتها في المنطقة".

فماذا سيعني التعايش مع مشروع النظام الإيراني في المنطقة؟ الانصياع لهذا المشروع هو خيار أوروبي وأميركي وروسي وصيني. فالأمر لا يهمّ هذه الدول، إذ إن آخر همّها هو تأثير هذا المشروع في الشعوب والدول العربية. قرار هذه الدول هو أن لا مانع من أن تدفع المنطقة العربية ثمن الذعر الأوروبي والأميركي من إيران نووية.

طهران تُحسن ابتزاز هذا الذعر وتوظِفه لخدمة غاياتها الاستراتيجية. الدول العربية تُفتش عن أجوبة وتبحث عن وسائل التموضع بين طيات الانبطاح الأميركي والأوروبي والروسي والصيني أمام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. برغم كل هذا، مِن المُبكر إعلان الانتصار الاستراتيجي لأيٍّ من اللاعبين. وحتى الآن، معظم الانتصارات المزعومة تبقى عابرة أو مرحليّة.