ثمة ما يتغير

18 أيار 2021 08:38:26 - آخر تحديث: 21 أيار 2021 18:42:27

تجافيني الموضوعية  ازاء فلسطين فالانتماء بعامة عائق امام النزاهة الفكرية فكيف ازاء قضية عادلة تنتمي الى عالم الاخلاق قبل عالم السياسة.

طالما لهثت اسرائيل ودعاتها خلف وهم الجغرافيا والهوية، وهم وثقه الدكتور فواز طرابلسي  في كتابه (سايكس - بيكو - بلفور، ما وراء الخرائط). نابليون بونابرت  في العام 1798 كان اول الواعدين  بالوطن القومي اليهودي، قاد حملته على مصر وقاد معها دعوته ليهود اسيا وافريقيا لاعادة تاسيس الدولة اليهودية في فلسطين ودعا الى مؤتمر دولي في باريس للاتفاق على حل سياسي للمسالة اليهودية طمعا بانضمام اليهود الى جهود السيطرة الفرنسية على اوروبا وطمعا بتمويل من قادة اليهود لحملته العسكرية. دعاة الوطن  اليهودي، وفي مقدمتهم رئيس الجالية اليهودية في لندن وسمسار البورصة الثري موسى مونيفيوري، حاولوا اغراء محمد علي باشا بتطوير الزراعة وطلبوا منه استئجار فلسطين لمدة 50 عاما وكانت الصفقة تقضي باستئجار اليهود لمئتي قرية فلسطينية مقابل عشرين بالمئة من عائداتها للباشا المصري الذي لم يكن  لحسن الخط يملك صلاحية القرار  فذهب حكمه وذهبت معه الصفقة .

مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل فاوض وزير المستعمرات البريطاني جوزف تشامبرلين  في العام 1903 على مساحات في كينيا الافريقية كملجا لليهود قبل ان تسقط ما عرفت انذاك بخطة  اوغندا  ليعود هرتزل ويعرض توطين اليهود في الاردن. الدعاة ذاتهم كانوا قد عرضوا على السلطان عبد الحميد الثاني  في العام 1876 شراء فلسطين بمليوني فرنك لسداد ديون السلطنة فرفض ذلك واصدر مذكرة الاراضي العثمانية لمنع الامر  وهناك من يقول انه نصحهم ببلاد الرافدين بدلا عن فلسطين فعادوا وعرضوا شراء جزيرة قبرص ومبادلتها بفلسطين في العام 1899 ثم فكروا بشراء اراض في محيط بيروت ومقايضتها بارض في فلسطين. هرتزل نفسه طلب من روسيا زمن القياصرة انشاء مستعمرات لليهود في فلسطين ثم عاد وفاوض الخلافة العثمانية على استئجار سنجق عكا لمدة 99 عاما اضافة الى مفاوضته البرتغال وبلجيكا وايطاليا على مستعمرات يهودية في الموزمبيق والكونغو وليبيا  وكلها مشاريع فشلت الى ان تحققت للمؤسسة الصهيونية  الجغرافيا بوعد بلفور وعادت بعدها لتلهث خلف الهوية.

جوهر الفكرة الصهيونية هو الحق المطلق في الوجود وانكار وجود الاخرين وانكار هويتهم او تدميرها.

تفوقت  اسرائيل في كل المعارك :الجغرافيا والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والسلاح والعلاقات الدولية وما هزمت الا في معركة واحدة هي معركة الهوية وهذه هي المعركة الحقيقية الباقية. 

الخلاصات مما يجري في فلسطين كثيرة: بنيامين نتانياهو يهرب من سجنه الى دم الفلسطينيين، حماس تستحوذ على مشاعر الفلسطينيين بمعادلتها الجديدة، السلطة الفلسطينية واقعة بين نارين  قلبها على جراح شعبها وعينها على الحسابات الواقعية ولا تملك الا ان تصرخ في المخافل العربية والدولية دون مجيب ،معادلة جديدة ترتسم داخل حدود فلسطين التاريخية، ايران مغتبطة، مهللة ،ونائية في فنادق فيينا. ولا بأس ببعض الاستعراضات، ما بعد  مواجهات الشيخ جراح والمسجد الاقصى وغزة والداخل الفلسطيني ليس كما قبله. كلها استناجات صالحة لكن الحقيقة الاهم ان ما يجري منذ اكثر من  سبعين عاما هو صراع هويات قبل اي شيء اخر وسنوات الاحتلال التي طحنت أعمار وآمال الفلسطينيين لم  تمس هويتهم وكل جيل فلسطيني جديد لا يقل تحفزا عمن سبقه لأجل قضيته وكل جيل اسرائيلي جديد يقل استعدادا عمن سبقه في الدفاع عن دولته.

لا أوافق بعض الممانعين في الخلاصات المتعجلة  وهم يسوقونها لاهداف سياسية لا تتعلق بفلسطين وقضيتها بل بصراعات المنطقة ومكائدها لكن  الثابت ان وهم الاسرلة (والتعبير للمفكر عزمي بشارة) قد سقط سقوطا مفجعا للمؤسسة الصهيونية التاريخية لكنه ربما يكون  سقوطا مفرحا لدعاة اليمين الصهيوني والديني الذي يتسيد الساحة الاسرائيلية اليوم ومعه سقطت  فكرة  الاندماج الكاذب، الدوني، والموازي  لانكار الذات واسقاط الهوية مقابل فتات الانتماء الى الدولة ولم يعد  يستطيع منصور عباس او من يشبهه، سواء تدثر بعباءة الاسلام السياسي او قبعة الليبرالية او اليسار، لم يعد  يستطيع ان يرقص جذلا بلقب صانع الرؤساء  بعيدا عن هوية شعبه وان يبدا من حيث انتهى الحزب الشيوعي الاسرائيلي او حزب العمل الاسرائيلي (صاحب فكرة الاستيطان والعزل) في كتم الهوية لمصلحة منطق مطلبي سطحي، مهزوم ومتعام  يرفع الحقوق الفردية ويقصي الحقوق الجماعية لابناء الداخل المحتل وهو ما ارادت  تاريخيا المؤسسة الصهيونية ان تسجن الفلسطينيين فيه عبر تكرار مقولتها التاريخية في أعلى درجات لطفها ونفاقها: لكم حقوق في هذه البلاد وليس لكم حقوق عليها .


صراع الهوية هذا هو الذي جعل 20 بالمئة من الناخبين الاسرائيليين "عربا فلسطينيين" الا قلة ممن ساروا في ركب الاحتلال، وصراع الهوية هذا لن يحسم قبل اجيال ، وصراع الهوية هذا يحتاج ان يعود فلسطينيو الداخل خطوة الى ميدان النضال السلمي، الحقوقي والسياسي، على قواعد وطنية  وقومية واضحة لانهم، اضافة الى نضال الضفة والقدس وغزة، هم المعطى الجديد، النوعي والمغير في هذا الصراع الذي تنبه له العالم والعرب متاخرين، بعكس المؤسسة الصهيونية،  رغم معاناتهم ونضالاتهم المعلنة والمكبوتة وقلة الذين يعرفون مثلا ان معدلات رفض الخدمة الاجبارية  في جيش الاحتلال الاسرائيلي قد ارتفعت الى مستويات قياسية وعلى خلفية قومية بين ابناء الداخل المحتل لا سيما دروز فلسطين الذين عاشوا أعلى درجات الخبث الصهيوني في تجربة الاسرلة لكنهم اليوم يمثلون ابهى  نهايتها البائسة.

قلة ادركت قيمة عرب الداخل المحتل في مجرى الصراع التاريخي وفي مقدمتهم  الرئيس الفلسطيني الرمز  ياسر  عرفات الذي اذكر انه ارسل مندوبه في الاردن القيادي الفلسطيني اسعد عبد الرحمن الى وليد جنبلاط في العام 2000 ليقول له: يتمنى عليك ابو عمار ان لا تقسو  كثيرا على  بعض دروز فلسطين  حتى الذين لا يزالون يرضخون  للتجنيد الالزامي  ففي النهاية هولاء هم مستقبل الصراع .

ليس في تجارب كل العرب ما يعين على اسداء النصح للفلسطينيين، لكن لا يجب ان يؤخذ فلسطينيو الداخل المحتل  بعزيمتهم الى اي مواجهة  امنية او عسكرية مفتوحة مع الاحتلال الذي سيصعد حملته عليهم تنكيلا وطردا وسجنا وتجريدا من "الجنسية" ويحب ان لا تعطى المؤسسة الصهيونبة الذريعة التي طالما انتظرتها لاجل التخلص منهم وترحيلهم سياسيا وجسديا استكمالا لخطوات تشريعية كانت قد بدأت حتى قبل اعلان اسرائيل دولة قومية لليهود.

استمدت دولة الاحتلال الاسرائيلي وجودها من المحرقة والمصالح الاستعمارية، لكن المحرقة الفلسطينية المستمرة لا تزال تمنع عنها شرعيتها الاخلاقية، وكلما ازدادت اسرائيل قوة سياسيًا وعسكريًا كلما زادت القضية الفلسطينية قوة أخلاقيًا رغم أننا لسنا في عالم يقوم على الفضيلة بل على المصالح والقوة.

فجر السبت الفائت، لملم علاء أبو حطب أشلاء أطفاله الأربعة وزوجته بعد غارة إسرائيلية على منزله في مخيم الشاطئ قرب غزة وشكر الله لأنه ترك له طفله الرضيع ابن السبعة اشهر حياً.

علاء ابو حطب يدفن أولاده ويدفن بجانبهم حلم اسرائيل بكسرهوية الشعب الفلسطيني، ولو عاش مؤسس ورئيس المؤتمر الصهيوني العالمي ناحوم غولدمان الى يومنا هذا لأدرك صدق كابوسه الذي تنبأ به عندما قال إن دولة إسرائيل سوف تختفي من الوجود إذا ظلت تمارس الإرهاب اليومي ولا تعترف بوجود دولة فلسطينية.

عندما سئلت رئيسة حزب العمل ورئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير عن أسوأ وأفضل يوم في حياتها قالت: "أسوأ يوم كان عندما تم إحراق المسجد الأقصى لأنني خشيت من ردة فعل عربية وإسلامية، وأسعد يوم في حياتي هو اليوم التالي لأنني رأيت العرب والمسلمين لم يحركوا ساكناً".

ثمة ما يتغير.

(*) تنشر بالتزامن في جريدة "النهار".