Advertise here

لبنان وسط العاصفة

06 أيار 2021 08:30:49

للبنان عبر التاريخ خصائص تختلف عن سِمات الدول الأخرى المجاورة له، أو البعيدة عنه، وقد حُمّل أثقال إمبراطورية منذ ما قبل الميلاد، أيام الفينيقيين العماليق الذين يتحدرون من العرب العاربة، مروراً بزمن الفتوحات التي أجلت كابوساً بيزنطياً كاد أن يُغير كامل معالم البلاد التي كانت جزءاً من سوريا الكبرى، ومركزاً رئيسياً فيها. وأسهمت بلاد الأرز في حملات التبشير المختلفة، ومرّ بها السيد المسيح، كما لعبت دوراً رئيسياً في حماية الشواطئ الغربية لدولة الخلافة العباسية والأموية، ولاحقاً اختلفت الإمبراطوريات الخمس الكبرى في القرن التاسع عشر بسبب رغبة كل منها في الحصول على «مرقد عنزة أو قائمقامية» في ربوع جبالها. وكان لبنان ضحية لصراعات الدول الكبرى أو ثمناً لتوافقاتها.

وقد حافظ لبنان على تنوعه، وخصائصه التي تحتضن الثقافات المتعددة، بما في ذلك التنوع الديني الذي يغلب على مكوناته الاجتماعية، على الرغم من المحطات القاسية التي سبق أن مرّ بها. وقد اتفقت الدول العربية على تحييده رسمياً عندما صنفته جامعة الدول العربية كدولة مساندة، وليس دولة مواجهة في الصراع مع إسرائيل. كما أن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر رفض ضمّه للوحدة التي جمعت مصر وسوريا في منتصف القرن الماضي، ليبقى ساحة مفتوحة أمام التنوع السياسي العربي، وبوابة للشرق وللغرب.

عاش لبنان أياماً طويلة من الاستقرار والبحبوحة الاقتصادية، وكان ملجأ للمضطهدين من الأرمن والفلسطينيين ولاحقاً السوريين وغيرهم، ومساحة للحرية، ومؤئلاً للاستثمارات التي تبحث عن الأمان وعن المردودية، لكن بمناسبة قيام لبنان بهذا الدور حمّله بعضهم أثقالاً سياسية وأمنية أكثر مما يستطيع أن يتحمل،  وغرق  في صراعات وحروب موجعة، لم تنته جراحها حتى اليوم.

لعل ما يعيشه لبنان اليوم الحلقة الأخطر في تاريخه، وهو مهدد بالزوال كدولة، ومهدد بفقدان دوره المميز بالكامل، وشعبه مهدد بالجوع أو العَوز أيضاً ، وقد تتفلت الأوضاع فيه بين ساعة وأخرى إلى ما لا يمكن توقعه، من جراء توافر العوامل السلبية المتداخلة التي تحيط به، ومن جراء فشل «الإستبليشمنت» الحاكمة في إدارة الخصوصية اللبنانية، وغالبية هؤلاء فضلوا المصالح الفئوية والحزبية والطائفية والشخصية على المصلحة العليا للدولة.
 يمكن إدراج مجموعة من المؤشرات على الخطورة غير العادية التي تعيشها بلاد الأرز، أهمها الاختناق الاقتصادي والاضطراب المالي؛ حيث تراجعت احتياطات مصرف لبنان التي يمكن استعمالها – من غير ضمانة الودائع - إلى الصفر، بينما ودائع المواطنين وجنى عمرهم مهدد في البنوك، لأن البنوك وظّفت هذه الأموال بغالبيتها سندات خزينة حكومية، والحكومة أعلنت تمنعها عن سداد الديون من نهاية مارس/آذار 2020، وزادت جائحة كورونا من حدة الاختناق المعيشي، كما أن القطاعات الخدماتية التي كانت سبباً رئيسياً لانهيار المالية العامة – خصوصاً الكهرباء – متوقفة عن العمل تقريباً، أو أنها مهددة بالغياب الكامل، ومنها إضافة إلى الكهرباء مؤسسات المياه والمستشفيات وصولاً إلى قطاع الهاتف والإنترنت.

وأخطر من كل ذلك؛ فإن المسؤولين السياسيين يواجهون تلك المعضلات المخيفة بالمناكفة، والتحريض على بعضهم البعض، والمس بالدستور، ويمتنعون عن تشكيل حكومة حيادية إنقاذية يمكن لها أن تعيد لملمة الجراح، من خلال تعاونها مع أصدقاء لبنان وأشقائه القادرين على مساعدته. وبدا كأن الجزء الأكثر تأثيراً في «الإستبليشمنت» الحاكم، لديه حسابات مختلفة، ولا يتطلع بمهمة الإنقاذ كأولوية سياسية تغلب على أي اعتبارات أخرى، وهؤلاء مرتاحون على وضعهم لكونهم السلطة الهشّة الوحيدة التي تتحكّم بمؤسسات الدولة في غياب الحكومة، ويسعون إلى كسب نقاط في مستقبل السلطة المتهالكة، أو يبحثون عن مشاريع وهمية لكسب الوقت.

ومن جهة ثانية فإن قوى أخرى تحاول الاستثمار بالأزمة الخانقة الراهنة، لتدعيم خياراتها السياسية.

الوضع اللبناني في غاية التعقيد، والصعوبات فاقت كل تصوّر، لكن لبنان كان على الدوام ساحة تعثّر للمشاريع الإمبراطورية، ولم تنجح فيه المغامرات الشخصية الساذجة، فهو جزء من النسيج العربي المحيط، وقوته في تنوعه وفي انفتاحه على أشقائه العرب وأصدقائه في العالم، ولا يعيش كجزء من أي محور على الإطلاق.