Advertise here

يريد أن يموت رئيساً

25 آذار 2019 06:10:00 - آخر تحديث: 26 آذار 2019 10:52:49

ذهبت الى الجزائر ممثلاً الحزب التقدمي الاشتراكي والحركة الوطنية اللبنانية ، ولم أكن قد بلغت من العمر السابعة والعشرين. كانت تجربة غنية ومفيدة،  أكسبتني خبرة في السياسة والإطلاع على كواليسها وكواليس الدبلوماسية وأهميتها في حياة الدول ومصائرها. إذ كانت الجزائر آنذاك دولة قوية محترمة على المستوى الدولي، فاعلة متحركة في أكثر من اتجاه. دولة عربية متحررة من الاستعمار بتضحيات مليون ونصف المليون من الشهداء، وأعداد كبيرة من المعوقين والجرحى والمجاهدين الذين كانوا ولا يزالون أصحاب احترام وتقدير كبيرين في البلاد وقد خصصت لهم وزارة كان لها دورها وتأثيرها. دولة دبلوماسيتها تغطي العالم من أميركا الى الاتحاد السوفياتي الى الصين وحركة عدم الانحياز وأفريقيا وأوروبا عموماً مع خصوصية في العلاقة مع فرنسا الدولة المستعمرة المتجذرة في مؤسسات البلاد لوقت لم يكن قصيراً بعد التحرير. حركات التحرير كلها كانت موجودة عبر مكاتب تمثيلية في الجزائر العاصمة. القضية الفلسطينية قضية مركزية مهمة أساسية وتحرير الأرض رسالة والتزام لا حياد عنهما. شاركت الدبلوماسية الجزائرية في حل عدد من المشاكل بين الدول العربية، وبين بعضها ودول أخرى (العراق - ايران)، ولعبت أدواراً استثنائية على مستوى الأمم المتحدة. كان عبد العزيز بوتفليقة واحداً من رجالاتها الشباب الأصغر سناً الذي تبوأ منصب وزير خارجية وأتيح له أن يترأس دورة لمجلس الأمن. مثل كل الدول عندما تقع خلافات تتبدّل مواقع وتتغيّر أدوار. خرج من البلاد. والشعب الجزائري بطبيعته حدّ المزاج والتصرف عموماً وخصوصاً على مستوى الجيل القديم . 

في هذا الجو ذهبت الى بلاد الخير والحركة والجهاد والنضال والتحرير والعزّة والكرامة. عملت وتعلمت. أتيح لي خلال تلك الفترة أن أتعرف الى كبار مسؤولي جبهة التحرير الوطني - الحزب الحاكم في البلاد - والى عدد كبير من الوزراء والنواب والشخصيات السياسية والدبلوماسية. إطلعت منهم على كثير من الأمور التاريخية التي لم أكن أعرفها. ناقشت معهم قضايا في عزّ الصراع في لبنان والحروب الاسرائيلية عليه. ساعدتنا الجزائر. تعلّمت الكثير الكثير في إدارة العلاقات مع الدول فزرعت في داخلي تلك التجربة الكثير من عناصر معرفة السياسة وقراءتها وكيفية صنع القرار في دوائرها. أصبنا أحياناً بخيبة. ولكني تعلمت منها. لأنني فوجئت بقرارات وسياسات كانت متناقضة أحياناً مع ما هو مزروع في ذاكرتنا. لكن حسابات الدول أكبر من عواطفنا وبعض المحطات في التاريخ. العالم يتغيّر. السلطات تتغيّر. الدول تحافظ على مصالحها وفق الوقائع والحقائق آخـــذة بعين الاعتبــــار تلك المتغيرات. والحديث يطول جداً عن تلك التجربة التي أتيح لي من خلالها وبرفقة الزعيم الوطني وليد جنبلاط، يرافقه قادة من الحركة الوطنية اللبنانية، أو الحزب التقدمي الاشتراكي، أن اشارك في ذلك العمر في جلسات مع رئيس الجمهورية وكبار الشخصيات. 

وبطبيعة الحال كانت المناسبات مفيدة جداً ولا أنسى تفاصيل التفاصيل فيها!! عبد العزيز بوتفليقة أحد أبرز رجالات الجزائر الشباب الذين تحملوا مسؤولية وزارة الخارجية وقدّر له آنذاك أن يترأس جلسة لمجلس الأمن. شخصية سياسية دبلوماسية ذكية قوية بحضورها ومعرفتها كما ذكرت، لكنه لم يكن في البلاد أثناء تكليفي بالمهمة التي قادتني الى هناك . 
عرفت عنه الكثير من خلال أصدقاء يحبونه وهم في موقع المسؤولية. وبعضهم سعى الى عودته الى الجزائر وكان فاعلاً في حملته الانتخابية، وفرح لانتحابه رئيساً بعد التحولات التي شهدتها البلاد إثر غياب الرئيس الشاذلي بن جديد، وتنامي الحركة الاسلامية التي فازت جبهة الاتقاذ فيها في الانتخابات ولم يسمح لها بالحكم وكلّف ذلك أثماناً كبيرة. فالجزائر دولة غنية بالموارد النفطية والغاز والمواد المعدنية أيضاً وكان ولا يزال ثمة حركة دولية بعد سقوط النظام الدولي القديم وتسابق عليها وعلى خيراتها وموقعها ومواقفها!! 

المهم، جاء بوتفليقة رئيساً. حكم. غيّر أموراً كثيرة. عزّز اقتصاد البلاد. لكنه استمر لفترة في الحكم لا تتماشى مع رغبة شعب غالبية أبنائه من الشباب الراغبين في التغيير. ثم أصيب بمرض وأصبح الحكم مشتتاً وعاشت البلاد حالات شلل، وأزمات اقتصادية ومالية أسبابها خارجية وداخلية لكنها أثّرت على مسيرة حكم الرجل. 

اليوم أصرّ على الترشّح للرئاسة في وقت يتطلع الجميع الى التغيير. استقطابات وتجاذبات في المحيط. الجيش يراقب. الاتحاد العمالي ذو نفوذ كبير، والمجاهدون لهم دور وأثر معنوي، والعالم تغيّر، وانفتحت الجزائر بأهلها وشبابها في الداخل والخارج على مواقع التواصل الاجتماعي. حصلت محاولات كثيرة لثنيه عن الترشّح. رفض. انطلقت مظاهرات كبيرة شارك فيها عشرات الآلاف من الجزائريين في مختلف الولايات لاسيما في العاصمة رفضاً لإصرار الرئيس على الترشّح . وأطلقت دعوات لرفض هذا التوجّه. أكثر من ألف قاض أعلنوا رفضهم المشاركة في مراقبة الانتخابات. كل الأنظار كانت ولا تزال متجهة الى تلك الساحة. والخوف يحيط بالجميع من أن تتكرّر تجارب تونس وليبيا ومصر وسوريا وغيرها وتغرق البلاد مجدداً في حمامات دم. 

تحوّل موقف الجيش وكبار المسؤولين في القضاء والاتحاد العمالي العام والمجاهدين الى موقف معلن برفض الانزلاق الى الدم، والانحياز الى الشعب بعد تقديم الرئيس طلب ترشّحه من جنيف حيث كان يتلقى العلاج. هنا أصبح الموقف دقيقاً. عاد الى البلاد غير رئيس الحكومة. أعلن نيّته عدم الترشّح. لكنه لم يحدد موعداً لإجراء الانتحابات. وسبق أن طرح فكرة إجراء الانتخابات ثم بعد سنة يدعو الى انتخابات جديدة. خطوته الأخيرة أكسبت الجزائر وقتاً ليس إلاّ. آمل أن يستفاد منه للوصول الى تفاهمات، إذ لا يجوز أن يعلن الرئيس عدم ترشّحه وتنتهي ولايته الدستورية ويبقى رئيساً دون تحديد موعد لإجراء الانتخابات واختيار البديل. بالتأكيد سوف يولّد هذا الأمر صراعات كثيرة. 

تذكرت هنا جلسة مع أحد أصدقاء الرئيس القدامى منذ فترة قصيرة كنا نجري فيها جولة أفق حول المتغيرات التي تعيشها الجزائر واحتمالات الانتخابات الجديدة قال لي خلالها: "أخي غازي، بوتفليقة يريد أن يموت رئيساً أياً تكن النتائج"!!
في بلادنا للأسف كي يصل بعضهم الى الملك لا بدّ من ثمن كبير تدفعه دولته وشعبه وكي يخرج يكون الثمن مضاعفاً أكثر. 

حمى الله الجزائر وشعبها وخيراتها.