يأتينا العيدُ متخاذلاً هذه السّنة، فيتمايلُ حزناً على عمّالٍ بلا عمل وَوطنٍ بلا عمّال...
عمّالُ بلادي الكادحون، إخوتي في الوطن، زملائي الكرام.
كيف يطلُّ علينا العيد هذه السّنة، وماذا يقول لنا حكّام الوطن في عيدنا؟
في كلّ عام يقبل أيّار حاملاً زنابقه البيضاء، يقدّمها بفخرٍ إلى بناة الوطن، إلى صانعي الحضارات وركائز المجتمع.
أمّا هذا العام فالأوّل من أيّار بقي حزيناً يتحسّر على أبنائه الذين إمّا فقدوا الحياة، أو فقدوا الأمل بالحياة.
بعد أكثر من سنة من المعاناة الصحيّة، والنفسيّة طبعاً، بسبب جائحة كورونا التي ألمّت بالعالم أجمع، نستجمع أنفسَنا، ونلملمُ جراحَ أرواحِنا المتألّمة لنكفكفَ دموعَنا من قسوة الفقدان. فخلال هذه الجائحة، معظم العائلات اللبنانية فُجعت بمرض، أو بموت، أحد أبنائها. وهذا لا يعني أنّنا الوحيدون في العالم الذين تعرّضوا لهذه الأزمة، ولكنّنا كنّا الأضعف، والأكثر بؤساً، حيث أثبت صانعو القرار في بلادي أنّهم الأسوأ في إدارة الأزمات. شعبٌ عاش أكثر من سنةٍ يصارع المرض وحيداً متروكاً، محروماً
من أقلّ حقوقه الإنسانيّة، حيث لا دواء، ولا استشفاء، ولا شفاء إلّا للأغنياء.
عندما يفسد الحكّام فلا عجب إن تشبّث الفساد بكافة المؤسّسات، ولكن العجب أن تنعدم الإنسانيّة فيتلاعب الأغنياء بأرواح الفقراء.
انعكس الفساد السياسي، والنّزاع الجشع على الحكم على حياة اللبنانيين اليوميّة بشكلٍ مباشر. فمع غياب السلطة وفقدان الاستقرار السياسي والاجتماعي، تراجع الوضع الاقتصادي بسرعة حتّى انهار، ففقدت العملة الوطنيّة قيمتها مقابل الدولار. وفي ظلّ التفلّت الواضح خسر العامل اللبناني أمله بالعيش الكريم، حيث فقدت الأجور قيمتها الشّرائية، فتهاوت الأسس الاجتماعيّة، وتحطّمت آمال الشباب، وتفكّكت العائلات بعدما أصبح ربّ العائلة غير قادرٍ على تأمين أقلّ مستلزمات العيش الكريم لعائلته، فازدادت الضّغوط النفسيّة، وكثرت الهموم خاصةً في ظلّ الأزمة الصحيّة الرّاهنة. كلّ هذا ولم يحرّك الحكّام والمسؤولون ساكناً لإنقاذ الوطن والمواطن، بل ازدادوا طمعاً وتعلّقاً بالمناصب، وهو ما أدخل البلاد والأفراد في دوّامة ليس منها بريق خلاص. ودفع العامل اللبناني ثمن جشعهم وفسادهم، وما زال يجابه أسوأ الظروف للحصول على أقلّ حقوقه الإنسانيّة وحقوق عائلته، ألا وهي العيش الكريم والغذاء السليم.
ولم يقتصر الظّلم على الوضع الاقتصادي، إنّما تخطّى حدود المسموح، فألمّ بالقطاع الطبّي حيث ضاعت الرّسالة الإنسانيّة السّامية في غياهب المصالح الشخصيّة، وأصبح المواطن المسكين هدفاً أساسياً، ومصدراً للرّبح الوفير. وفي مواجهة أزمة عالميّة مستجدّة كهذه، يقف الإنسان منّا إلى جانب أخيه الإنسان يساعده ويسانده ويتشاطر معه الهمّ، والمرض، والخوف وحتى الألم؛ ولكن في بلادي حصل ما لم يكن بالحسبان، وبات الفاجر ينهش التّاجر، كما يقال، وتحوّل الجميع إلى تجّار بالانسانيّة: تحوّلت الفحوصات الخاصّة بتشخيص فيروس كورونا إلى كنز علي بابا الذي لا ينضب في المراكز الطبيّة والمستشفيات، حتّى بات هذا الفحص حكراً على العائلات الميسورة مادياً حيث يتعذّر على العائلات ذات الدخل المحدود إجراء الفحص المذكور، وخاصّة إن كانت مكوّنة من أكثر من شخصين. والعجيب هنا، والجدير بالذكر، أنني شخصيّاً خضعت لهذا الفحص مرّتين مجاناً في فرنسا علماً بأنّي لست مواطنة فرنسيّة، وغير حاصلة على الجنسية الفرنسيّة، وهذا ما يشعرني بالمرارة على وطنٍ ترعرعت في ربوعه، ولم يستطع أن يحتضنني في الأزمات.
إضافة إلى ذلك، طالت سياسة الاحتكار أيضا القطاع الطبّي، فانقطع الدواء أو بالأحرى تمّ احتكاره، والتلاعب بالأسعار بشكلٍ غير مدروس حيث تفاوتت من منطقةٍ إلى أخرى، فعاشَ المواطن اللبناني مأساةً جديدة وهي عدم القدرة على تأمين الدواء، وخاصةً لمرضى الكورونا، لأنّ أدويتهم، إن وُجِدت، كانت تفوق قدرتهم الشرائيّة المحدودة.
ولتكتمل المعاناة، انتقل الفساد إلى بعض المؤسّسات الطبيّة الخاصّة التي استغلّت عدم قدرة المستشفيات الحكوميّة على استيعاب أعداد المرضى، فباتت ترفض دخول المريض إلى قسم علاج الكورونا دون تأمين مبلغ يفوق راتبه بأضعاف. مرّةً جديدة، تُنتَهك حقوق الإنسان في لبنان، فيُحرَم المواطن اللبناني من حقّه بالحصول على المتابعة الطبيّة والاستشفاء.
هذا ما يعيشه العامل في بلادي... هكذا يُحتَفى بجهوده. هذا ما يقدّمه حكّام الوطن له في عيده. هكذا يُكافئه وطنُه، وهذا غيضٌ مِن فيض. عمّالٌ فقدوا مصدر قوتهم اليوميّ، وما زالوا يفتّشون عن وطنهم، يحملون رايته الحزينة متمسّكين بالأمل، يغرسون بدمائهم زهورَ قلوبهم البيضاء، حتّى الرّمق الأخير!
لهؤلاء الشّرفاء في عيدِهم تحيّةُ إجلالٍ وفخر ومحبّة، تحيّة لقلوبكم الكبيرة. تحيّة لكدّكم المتواصل، لصبركم العظيم، لأياديكم الكادحة التي بها تُبنى الأوطان. لعيونكم التي أذبلها السهر. تحية إلى كلّ أب ضحّى وثابر لتأمين العيش الكريم لعائلته. تحية إلى كلّ أمٍ مناضلة تخوض ميدان العمل رغم كلّ التحديات الاجتماعية على أمل أن نحتفل بأعيادٍ أفضل وأوطان يعمّها السّلام.
كلّ عام وأنتم بخير.