Advertise here

المصالحة أكثر رسوخاً... وهذا ما فعله جنبلاط!

24 آذار 2019 06:05:00 - آخر تحديث: 25 آذار 2019 12:45:17

عند الإمتحان يكرم المرء أو يهان. عند كلّ محطة مفصلية من تاريخ لبنان يثبت وليد جنبلاط أنه رجل الدولة، ورجل المصالحات. بخلاف ما يحاول البعض التشويش على دوره. يتقن جنبلاط فنون السياسة، ويعرف حتمية الحدود الحزبية أو الدولتية، أجدر من يحسن التميير بين ما هو طائفي ويرتبط بوجود الطائفة وبين ما هو وطني. هذا الإتقان هو الذي يحيله دوماً إلى صناعة الأحداث. فطوّر دور المختارة في صناعة التاريخ، ليس لبنانياً فحسب بل عربياً على مدى سنوات طويلة.

مقدام هو وليد جنبلاط، يوم أقدم على إنجاز مصالحة الجبل في العام 2001، لم يكن يومها أي حساب للأحجام والتفاصيل العددية. كانت غاية المصالحة عبرة وطنية بعيدة المدى، تختم جرحاً نازفاً في تاريخ البلاد، وتعيد اللحمة إلى أبناء المنطقة الواحدة، بعد التعالي على كل الجراح والإعتراف بالأخطاء. وهذا ما جدد جنبلاط التأكيد عليه في قداس سيدة التلّة في دير القمر، الذي أقيم بالتنسيق مع التيار الوطني الحرّ. ما يميّز جنبلاط عن غيره من السياسيين أنه عند المواقف الوطنية والأساسية، لا يتعاطى بمنطق العاطفة الذي يتعاطى معه آخرون، فيلجؤون إلى التهرب والمقاطعة، لأنهم يريدون تفصيل المناسبات على مقاسهم، بينما جنبلاط هو الذي يصنع الحدث ويفصّل المقام.

مهّدت مصالحة الجبل ليس إلى مصالحة الدروز والمسيحيين وإعادتهم إلى قراهم فقط، بل مهّدت إلى مرحلة سياسية كبيرة من تاريخ لبنان، حملت فيما بعد إعادة تموضع الجيش السوري في لبنان، وتأسيس لقاء قرنة شهوان وهي التي كانت لبنة أساسية في التمهيد لعودة الرئيس ميشال عون من المنفى وخروج الدكتور سمير جعجع من السجن. وهذا تجلى في كلمة جنبلاط خلال القداس بأنه:" بين عام 2000 و 2001 بدأنا العمل على المصالحة مع اصدقاء كرام ومنهم سمير فرنجية واستجاب البطريرك مار نصر الله بطرس صفير حينها، في وقت منعت فيه الظروف، الرئيس العماد ميشال عون من الحضور وقتها وكذلك رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بسبب السجن لكن البطريرك صفير كان موجوداً." وجنبلاط في تلك المصالحة وفي كل محطّة كان حريصاً على دماء كل الشهداء.

وأهم ما قاله جنبلاط في القداس، هو مراجعة تاريخية، تقيّم حقيقة الوضع اللبناني الذي سار منذ اغتيال المعلم كمال جنبلاط، على طريق الجلجة من حرب الى حرب ومن اغتيال الى اغتيال ومن مجزرة الى مجزرة، ما يعني أنه أصبح من الواجب الإقلاع عن هذه الحروب العبثية، والكف عن نكئ الجراح، وتعزيز التواصل على قاعدة البناء والجمع لا الهدم والتفرقة.

يصحّ في جنبلاط قول الشاعر عن الكريم الذي إذا ما أكرمته ملكته، بخلاف آخرين الذين يصحّ فيهم عجز البيت الشعري، بأنه إذا ما أكرمت اللئيم تمرّدا. خصوصاً أن مصالحة الجبل تعرّضت للكثير من محاولات التهشيم، خاصة من قبل بعض الأطراف التي كانت لا تعترف بها وتعتبر أن ليس لها علاقة بتلك المصالحة لأنها لم تكن شريكة في حرب الجبل، ربما تغيّرت الحسابات لدى هذا البعض فأصبح يعترف بالمصالحة ويريد تعزيزها وفق عنوان جديد يقترحه لها وهو التوبة والمغفرة. يبدو هؤلاء كمن يريدون بيع صكوك الغفران بعد إختزانهم لها واختزالها، يصنّفون أنفسهم في أرفع المقامات، وفق ادعاءات أن لا مغفرة بدون توبة، وكأنهم يفرضون على الآخرين قراءة فعل الندامة وتقديم فروض التوبة الطاعة، وغالباً ما يربط هؤلاء التوبة بتأدية فروض الطاعة السياسية، فما إن لا تتوفر لهم، لعادوا إلى أساليب قديمة جديدة تتعلّق بنكئ الجراح وتقوم على الشعبوية. ولو اقتضى ذلك الإقتباس من كلام جنبلاط نفسه، حين قال حول اغتيال كمال جنبلاط بأنه يسامح ولا ينسى، فيقولون إنهم يسامحون ولا ينسون لعدم تكرار الخطأ، لكن الخطأ يتكرر بمجرد نكئ الجراح. صفحة قداس دير القمر، هي صفحة جديدة من مصالحة الجبل التي أطلقها وليد جنبلاط باكراً جداً، ويمد يده إلى مختلف القوى لإبقائها وتعزيزها وإعلاء شئنها بعد طي صفحة الحرب التي شارك بها مختلف القوى ولا أحد بريء منها.