استطاعت المملكة العربية السعودية، بذكاء وصبر، امتصاص سلبيات الموقف الأيديولوجي الأميركي المتحكّم في نظرة إدارة بايدن لعلاقتها مع الرياض، والقائمة على نمطية الاستخدام الريعي، ونجحت في تدوير زواياه، من خلال المبادرة اليمنية التي أطلقتها لوقف إطلاق النار على الرغم من رفض الحوثيين لها، وعدم تجاوب إيران معها، إلّا أنها "أجبرت" البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي على تأييدها والدفع بها إلى مجلس الأمن، وبالتالي إطلاق المواقف المُدِينة للتصعيد الأمني الحوثي ضد الرياض.
لقد عبّر الموقف الأيديولوجي الأميركي الاستراتيجي لإدارة بايدن تجاه الرياض عن نفسه في الملف اليمني، من جهة، حيث الضغط الدبلوماسي والسياسي والميداني والعسكري انطلاقاً من رفع اسم الحوثيين عن لائحة الإرهاب، وتقارير المنظمات الدولية حول الإغاثة وحالة حقوق الانسان، إلى قرار وقف الدعم العسكري عن قوات التحالف العربي في حربها في اليمن دعماً للشرعية بوجه الانقلاب الحوثي، وفي ملف حرية التعبير وحقوق الإنسان، وعلى رأسها قضية المعارض السعودي جمال الخاشقجي، من جهة ثانية، حيث نشرت واشنطن تقريراً استخباراتياً خاصاً حول مقتل الخاشقجي، بما يحمل من رسائل سياسية، ومن تحديد للعلاقة الرسمية بين البلدين على قاعدة عدم الاتصال بولي العهد السعودي، وتكليف كل وزير الاتصال بنظيره على المستوى الرسمي، وهو ما يعكس سلوكاً من الرغبة في تصعيد الضغط على العائلة المالكة من قمة الهرم، مقابل إغماض العين عن الإصلاحات والمشاريع الكبرى التي أنجزتها المملكة، أو تلك التي تعمل على إنجازها بما فيها خطة 2030، ومشروع الشرق الأوسط الأخضر، والتي وضعت المملكة على سكة نمطٍ جديد من التغيير، وأدخلتها في نهضة اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ غير مسبوقة.
هذا وكانت الرياض قد نجحت في سياسة الاحتواء التي مارستها ضد التهديدات الإسرائيلية والضغوط الأميركية لتنفيذ صفقة القرن في عهد الرئيس ترامب، وفي احتوائها للاتفاقات التي وقّعتها بعض الدول الخليجية مع إسرائيل. ونجحت في ترسيخ موقفها وسياستها التاريخية تجاه المسألة الفلسطينية، وفي استعادة المبادرة على المستوى الإقليمي من الصراع في اليمني، إلى دعم السياسة العراقية الجديدة، وإلى احتواء التكتل (الإسلاموي) الإيراني – التركي – الماليزي – الباكستاني، ضمن منظمة الدول الإسلامية، وضبط إيقاع الصراع على أمن البحر الأحمر وتحدياته الأمنية من خلال إنشاء "منتدى البحر الأحمر" من الدول الثمانية المحيطة به باستثناء إسرائيل، كما أنها استعادت المبادرة في القيادة الخليجية بعد مصالحة قمة العلا.
بالتوازي مع سياسة الاحتواء السعودية، نجحت السياسة المصرية في مغادرة موقع المراوحة في الخلف في ارتباطها بالملفات الإقليمية، بدءاً من ليبيا وشرق المتوسط، والسودان، وأثيوبيا، والعلاقة مع إسرائيل والعراق واليونان والاتحاد الأوروبي. كما استطاعت تطوير وتحديث قوة الجيش المصري البرية والبحرية والجوية، حيث بات تأثير الدور المصري مؤثراً في البُعدين الإقليمي والداخلي، بعد إلحاق الهزيمة بالإرهاب داخل مصر ومعالجة ذيوله الخارجية من خلال الشروط التي وضعتها أمام تركيا مقابل إعادة العلاقات الأمنية معها.
وتحت عنوان الاشتباك والاستعداد للمواجهة، رفعت القاهرة من مستوى الموقف الخشن لدبلوماسيتها، وأعربت عن استعدادها الاشتباك مع أثيوبيا، والتعامل معها بالقوة العسكرية في معالجة قضية سد النهضة. وكذلك فعلت الرياض في مواجهة الهجوم الحوثي على مأرب ذات البُعد الاستراتيجي، حيث استأنفت العمليات الحربية، واستطاعت رغم هشاشة قدرة وموقف الشرعية اليمنية، كسر الهجوم الحوثي وفتح جبهات متعددة في أكثر من منطقة، بجهدٍ عسكري استثنائي، وباستخدام سلاح الجو الهجومي والشبكات الدفاعية لردع الهجمات الصاروخية والمسيّرات الحوثية التصعيدية.
يرى بعض المراقبين أنّ، "الرياض والقاهرة على بيّنة واضحة وجلية من السياسات الأميركية المنحازة ضد المصالح العربية، والتي لم تتقدم بأي مبادرة ذات وزن من شأنها طمأنة العواصم المعنيّة، لا سيما تلك الحليفة لها، حيث لم يجد المطلب السعودي بالحضور إلى طاولة المفاوضات النووية مع إيران، وتطوير صيغة (5+1)، أيّ أذنٍ صاغية، وأيّ موقف إيجابي من الإدارة الأميركية، وهذا يعني استبعاد الدور العربي ومصالحه عن طاولة المفاوضات الإقليمية – الدولية"، وتؤكّد أن "الإدارة الأميركية ضغطت باتجاه تحريك قنوات الاتصال الجانبية في قطر ومسقط وبغداد لفتحِ حوار سعودي – إيراني للتعويض عن هذا الاستبعاد، فتقدمت الدوحة بطلب لعب دور الوسيط حيث سبق لِعُمان أن لعبت هذا الدور، لكن الرؤية المختلفة التي تقدّم بها الرئيس مصطفى الكاظمي جعلت من بغداد مكاناً للمفاوضات تحت شعار خفض التوتر الأمني".
الرياض تدرك أهمية فتح قناة اتصال أمني - سياسي مع إيران على مستوى رفيع لإحداث اختراقٍ ما في الصراع الإقليمي. وهذه القناة السرية، على أهميّتها وضرورتها ووظيفتها، لا تعطي أي مؤشرٍ مطمئن بأن واشنطن وحلفاءها، وعلى عكس ما يعلنون، أي حساسية تجاه نظام المصلحة العربية التي يشكّل أمن واستقرار الرياض والقاهرة أهم عناصره، وهذا ما يدعو للتعامل مع اللحظة الحالية باعتبارها لحظة مفصلية، ولا بد من صياغة دقيقة لمجموعة من الأهداف التي تتقاطع عندها مصلحة الدولتين.
انطلاقا من ذلك، وبالاستناد إلى تجربة التحالف العربي السياسي - العسكري الذي نشأ عشية انطلاق عاصفة الحزم بقيادة المملكة العربية السعودية، والتي كانت إحدى أهدافه مواجهة حالة التمدّد الإخوانية المدعوم أميركياً، وعلى الرغم من تلاشيه، أصبح أكثر خبرة في التعامل مع السياسات والإملاءات الأميركية، وأكثر قدرة على تحديد عناصر منظومة الأمن القومي لكل من مصر والسعودية، والتي يؤسّس تقاطع المصلحة بينهما، سياسياً وأمنياً، نواة تحالف ثابت ومستقبلي لنظام مصلحة عربي يستطيع تطوير موقعه ودوره.
لذلك يمكن القول وإذا كان هناك ثمة تأخر في تحقيق فاعلية الدور العربي في بعض الميادين - وانتقاله من المرحلة الدفاعية إلى المرحلة الهجومية، حيث استغرق وقتاً لا بأس به في السنوات السابقة، وبالتالي فإن المرحلة الحالية لن تكون كسابقاتها مهما كانت ألاعيب الإدارة الأميركية باستخدام إيران، أو إطلاق يدها التوسعية مجدداً في الدول العربية، واستنزافها سياسياً واقتصادياً، وفرض الإملاءات عليها، كما كان يحصل سابقاً - فإنه ثمة تحولات بطيئة لكنها ثابتة في إعادة تكوين الحالة العربية يمكن البناء عليها في المستقبل.