لبنان على موعدٍ مع صيفٍ ساخن هذا العام. الأرض بدأت تغلي. والحدود على صفيح ساخن تشوى منذ مئة عام. والبحر يغلي، بعدما كشف أخيراً عن نفط مخبأ، يطمع به الأهل قبل الأعداء، والأصدقاء، والأشقاء والجيران.
تلتفت إلى الشارع فتجده يفور من شدة الغليان. كل يوم نأمة. كل يوم ثورة. كل يوم، تسقيط أوراق وتصعيد أصوات.
أما الأسواق، فصارت معرضاً للاشتباك، بعدما كانت معرضاً للبضائع وصنوف التجارات. صار المواطن غير آمن على نفسه، وهو يدخل "المولات". يخشى أن تغلي دماءه من شدة ارتفاع الأسعار. ويخشى أكثر على نفسه، من عراك ينشب بين الزبائن، وهم يتسابقون على علبة حليب لأطفالهم، أو على زجاجة زيت، أو على ربطة خبز، أو شيء من السكر والملح.
بدأ الناس يألفون الانتظام صفوفاً أمام محطات البنزين. تراها من بعيد بعيد ترفع خراطيمها مثل الفيلة اعتراضاً على الجفاف. والسيارات تزداد صفوفاً. وتزداد وقوفاً في الشمس، حتى يكاد نافوخ السائق يدور من شدة الاحتباس.
أما حكاية السدود الناضبة، بعد شتاء غاضبٍ وغامر بالثلج والماء، فهي تزيد الصيف سخونة، بعدما قحطت السدود الأموال، وكافأت الناس بالجفاف، وبنضوب الماء.
صيفٌ ساخن هذا العام يعد لبنان بالحرائق والنيران. لا من كوارث الطبيعة، وإنما من كوارث الإنسان. يزيدون النار بالنيران إشتعالا، حين يصير الشعب إلى الاحتكام للسلاح. تنقلب الدور على الدور. والشوارع على الشوارع. والطوائف على الطوائف. والأحزاب على الأحزاب. تتخلى الدولة عن دورها. وتحرق الشمس ما تحتها. وتصير السماء للحرائق والدخان. ويصيح صائح: جاء عصر الجبهات. يكاد كل شيء ينبئ، أن هذا الصيف لن يمرّ على خير. ترى البلاد كلها، تجلس مثل قدرٍ قديمة سوداء على بركان. وترى العالم يحوم بمبعوثيه. يحوم بمندوبيه. يحوم برسله. يقصدون لبنان، لا لحل في جعابهم. وإنما لامتصاص النقمة، وتأخير الاشتعال ولو للحظة. وإطفاء الحرائق، عند اضطرام النيران.
يستعد لبنان للنيران تأتيه على دفعات.
ليست هي هذه المرة من الحرائق، ولا من فوهات البنادق وحسب، وإنما من مواقف السلطات. من مواقف المعارضات. من مواقع الاشتباك بين الناس، على قارورة غاز.
كل شيء يوحي أن حرباً عالمية بلا حرب، تقع هذا الصيف على لبنان. تشعل أركانه من كل الجهات. تشعل بنيانه، وتحرق جدرانه. وتهدم هيكله. وتقوّض مؤسّساته، فلا تبقي منها، ولا تذر. أكاد أقول له: "اقتربت الساعة وانشق القمر".
بلادٌ تدخل عصر الفوضى هذا الصيف. فوضى تأكل الأخضر واليابس، وتحمل اللبنانيين للعيش في العصر الحجري.
تعود بهم إلى الكهوف. فالدرب قصيرة عليهم. بين كهف النفس وكهف الدار.
كل شيء محضّر للانفجار هذا الصيف. فالنار صارت على الأبواب: فلتان دولار وارتفاع أسعار. وحوادث أمنية من جهة أو تخبّط أجهزة. أو خبط ألوية. أو حدوث إنفجار.
صيفٌ ساخن، هو صيف لبنان هذا العام. كل الجهات تشير إليه. كل الرسائل تدل عليه. كل الطيور هجرته هذا العام، لأن صيفاً ساخناً سيحلّ ضيفاً ثقيلاً عليه.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية