مضى على إندلاع الحرب الأهلية اللبنانية 46 عاماً، منذ نهار الأحد ذلك الواقع في 13 نيسان 1975. وقد كان لهذه الحرب نتائجها وتداعياتها الكارثية التي لا زلنا نعاني منها حتى يومنا هذا، وأخطرها كان الفرز المذهبي والمناطقي إضافةً إلى الضحايا الذين قارب عددهم ما بين 150 ألفاً إلى 300 ألفَ جريح ومعوّق، و17 ألفَ مفقود، وهجرة أكثر من مليون نسمة في بلدٍ كان عدد سكانه ثلاثة ملايين، ونزوح نحو 600 ألف شخص من 189 بلدة وقرية مسيحية وإسلامية، أي ما يعادل 21.8% من مجموع السكان.
وعلى الرغم من سوداوية وقتامة صورة الحرب الأهلية الراسخة في العقول، لكننا بتنا في ظل الإنهيار الإقتصادي والنقدي الحالي، وأرقام الهجرة المرتفعة، وشبح الجائحة والموت الذي نعيش ونسمع بعض اللبنانيين (يَصِلون) إلى درجة الترحّم على أبشع الحقبات، "حقبة الحرب الأهلية".
تعود ذكرى الحرب الأهلية هذا العام والبلد يعيش واحدةً من أسوأ أيامه، بعدما وصل إلى حائطٍ مسدود، ولا من حلٍ الّا بالتسوية السياسية، التسوية التي لا بد منها لأن عكسها هو الصدام، ولا سمح الله الحرب، التي عرفها اللبنانيون جيداً وخبروا مآسيها.
البعض يطرح سؤالاً عمّا إذا كانت طبول الحرب الأهلية تقرع من جديد، فهل هذا الأمر واقعي؟
تتباين ردود الفعل على هذا الموضوع، لكن من المؤكّد أن هناك قسماً من اللبنانيين الذين شاركوا بهذه الحرب يهابون العودة إليها، وقد رأوا أن جدران الحقد والبغضاء والطائفية هي التي يجب أن تُهدم، وأن جسور السلام والحوار والتوافق هي التي يجب أن تُبنى. وعلى هذا الأساس كانت مصالحة الجبل التاريخية لرزع السلم والإستقرار.
أحد المحاربين القدامى، وهو أمين سر جمعية "محاربون من أجل السلام"، بدري أبو ذياب، قال في حديثٍ لجريدة "الأنباء" الإلكترونية: "بالنسبة لي كمقاتل سابق، ذكرى الحرب أراها كل يوم، وأتذكّر عندما توقّف المدفع، وتوقف إطلاق النار، والقتل على الهوية. لكن الحرب ليست دائماً بالسلاح والقتل والعنف. الحرب أكثر من ذلك بكثير. الحرب هي في عقولنا، فهي تبدأ من العقل عندما نبدأ بالتفكير أن هناك خصم وعدو لنا، وهو بالأصل جار وصديق".
أبو ذياب الذي خبر الحرب، اعتبر أن، "ذكرى الحرب يجب أن تكون حافزاً لكي نفكر سوياً كيف يجب أن نتعامل مع الماضي كي لا نكرّر التجارب. فمنذ تأسيس لبنان الكبير أيام القائمقاميتين، وعلى أيام متصرفية جبل لبنان، كانت دائماً هناك حروب داخلية وأزمات في لبنان، ولم نعرف التعامل معها اليوم لأننا نتعامل بنفس الطريقة، بالعنف والحقد والكراهية، لذلك يجب تغيير أسلوب التعامل".
ويتذكّر أبو ذياب عندما توقف المدفع قائلاً: "عندما انتهت الحرب بدأت أرى الأمور من منظارٍ آخر، ووصلت إلى قناعة أن العنف لن يوصل إلى حل، وهذا ما أخذناه في الجمعية كشعارٍ لنا في عام 2014، ولا زلنا نشدّد على أن "العنف ليس حلاً"، والحل هو الحوار وقبول واحترام الآخر. نحن في الجمعية كنا أعداءً في الماضي، وذات مرة أطلق علينا البعض (تسمية) "أعداء الماضي، أصدقاء اليوم". فصحيحٌ أنّنا كنا أعداءً في الماضي، لكن اليوم نحن سوياً نعمل لبناء المستقبل الذي دمّرناه في حربنا، وما زال البعض يريد أن يورث الحروب إلى الجيل الجديد. يجب التفكير بطريقة أخرى، والسؤال هو "كيف يجب أن نتعامل مع الماضي لكي لا تتكرر تجربة العنف، ونبني مستقبلاً أفضل".
وأما الواقع الذي عاشه أبو ذياب فجعله يرى أن، "الفشل الذريع الذي نعيشه اليوم يؤدي إلى كوارث أكبر من الحروب، لذلك فإنّ الحرب لم تنتهِ. النزاع لا يزال موجوداً، والصراع موجود. علينا أن لا ندخل في دوامة العنف لأن النتائج ستكون كارثية".
وبعدما جمعتهم الأيام الصعبة، توجّه أبو ذياب إلى جيل الحرب بالقول: "لكل من شارك بالحرب (أقول)، كلّنا سلكنا طريق العنف. علينا اليوم إعادة النظر ونقد هذه التجربة، والتكلّم بصراحة مع بعضنا الآخر. وللأسف يطلق علينا أحياناً (تعبير) "مجرمي حرب"، فنحن دخلنا بالحرب من أجل قضايا نؤمن بها، وهي قضايا نبيلة جداً، ولكن الوسيلة لم تكن بالشكل المطلوب، وأتوجّه لهم بالدعوة لمتابعة نضالهم من أجل المساواة، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والنضال من أجل حقوق الإنسان، ومن أجل بناء وطن ودولة مؤسّسات، ولكن بالطرق السلمية لأن الطريقة الأولى فشلت".
وبعد كل هذه التجربة المرّة مع الحرب، لا بد من رسالة إلى جيل الشباب، وفيها يختم أبو ذياب قائلاً: "إلى جيل الشباب الذي سمع بالحرب، أو ولد بعد التسويات، والذي يقع على عاتقه بناء المستقبل، لا أعرف ماذا أقول له بعد كل ما يحدث في لبنان. ولا أعرف إذا ما سيكون هناك فائدة من إخباره عن مساوئ الحرب في ظل المساوئ التي يعيشها اليوم في بلدٍ يفتقد إلى الكهرباء، والمياه، والطرقات، والمحروقات. فبأي أحلام سأعِده: بلدٌ مدمّر، حواجزه النفسية أكثر من تلك الأمنية. بلدٌ مفتّتٌ طائفيا. لم أقدّم شيئاً لهذا الجيل، لكنني أدعوه بأن لا يكرّر التجربة، وأن يحاول التفكير بطريقة أخرى، بالطرق اللّا- عنفية".