عندما تتحوّل الأمومة إلى قضيّة خاصّة بالرجال!

21 آذار 2019 10:45:00 - آخر تحديث: 21 آذار 2019 10:45:21

كما درجت العادة في مثل هذا اليوم من كل عام، يغدق الجميع على الأمهات بأسمى آيات المعايدة والتهنئة والدعوات لهنّ بالعمر المديد و"الدور السديد". وهذا الامر في الواقع لا يخلو دوماً من المبالغة في التفخيم والتبجيل بحق الأمّ، رغم اعترافنا بما تمثّله من قيمة مضافة في الحياة البشرية بصورة عامة، على اعتبار أن خالق الكون خصّها بميزة الحمل والإنجاب، فلولاها لما كانت حياة ولا استمرارية .. ولا بشريّة.

لكن ما نودّ التطرّق له هنا، في معرض حديثنا عن المبالغة في توصيف الأدوار والمهام المنوطة بالامّهات في مجتمعاتنا الشرقيّة، هو ذاك التنميط الفاقع الذي يطالها، فيحصرها في قالبٍ واحد يلاحقها كالقدر، حيث ينبري مستخدموه من النساء والرجال ومن المنتشيات بآثاره المعنوية في صفوف الأمّهات، إلى ترسيخه في عقول أهل هذا الشرق، دون أن ينتبه كثيرون إلى مخاطره وأضراره البالغة ربّما على تلك الأم، وعلى أفراد عائلتها دون استثناء. 

فهل صحيحٌ أن الأم وحدها هي الكائن الحنون وسط أسرتها؟ هل هي وحدها المعطاءة والتي تضحّي من أجل أولادها؟ هل هي وحدها ملاك الأسرة الحارس؟ بالمقابل، هل يفترض بها أن تكون وحدها المسؤولة عن أعمال تنظيف المنزل، والطهو، وتأمين حاجيات البيت من الأغراض، وتدريس الاولاد، والاعتناء بهم في حالات المرض، وتلبية حاجاتهم اليومية المختلفة، والمتضاربة في غالب الأحيان مع حاجات الزوج ورغباته الملحّة؟ وهل عليها أن تقوم بكل تلك المهام الشاقّة والمنهكة لكي ترتقي بنظر هذا المجتمع إلى رتبة "أم"؟!

بالمقابل، فإن السؤال الأكثر إلحاحاً الذي يطرح نفسه هنا هو: ماذا عن دور الأب الشرقي في حياة أسرته؟ أين حقّه المعنوي، أقلّه من ذاك التفخيم والتبجيل الذي تحظى به الأم في عيدها؟ ولماذا يمرّ عيد الأب مرور الكرام فيما تقوم الدنيا ولا تقعد من أجل الأمهات في عيدهنّ؟! أمحبّة بهن فعلاً؟ أم تكريساً للدور المرتقب أو المراد إبقائهن ضمنه؟!

وبعد، فأين حقّ الأولاد المعنوي والعاطفي على آبائهم؟ وهل حقّاً أن الآباء ليسوا جديرين بممارسة "الأمومة" في طبيعة علاقاتهم بأولادهم؟! ثمّ من المستفيد من استقالة الأب من دوره داخل الأسرة كما هو الواقع غالباً في أكثرية الأسر الشرقية، واللبنانية إذا ما أردنا أن نكون أكثر تحديداً؟

إستقالة الأب من دوره له آثار نفسية خطيرة عليه وعلى أسرته

تؤكد الكثير من الدراسات في علم النفس أن استقالة الأب من دوره الأسري يخلّف آثارَ نفسيّةً كارثيّةً على كامل أفراد أسرته، وعليه بصورة مضاعفة! وتشرح بعض هذه التجارب والدراسات حسب مختصّين، أن الكثير من الآباء يشعرون بنقصٍ معنويٍّ نتيجة عجزهم عن التمتّع بهذا الجانب الإنساني المخلوق بالفطرة في شخصيّاتهم، والذي يستقيلون منه طوعاً أو قسراً باعتبار أنه من صفات الأمومة! (وصفات الامومة هي كل التوصيفات والأدوار التي صنّفتها المجتمعات المتتالية ربطاً بالدور الإنجابي للمرأة، انطلاقاً من واستناداً إلى موروثات دينية او عادات وتقاليد وليس إلى أية اعتبارات علمية أو غيره.)

وبطبيعة الحال، غالباً ما يلجأ صاحب النقص للتعويض في مكان ما، وأساليب التعويض كثيرةً تبدأ من تعنيف الزوجة والأولاد، تمرّ بالخيانة الزوجية، ولا تنتهي عند الشعور بانعدام الفائدة في حياة الأسرة ودخول بعض الآباء في دوامة من اليأس وسوء تقدير الذات، مع ما يتأتى عن تلك المشاعر السلبية من انسحاب تلقائي وتدريجي من كافة الأدوار المعنوية والعاطفية و"اللوجستية" داخل الأسرة. وغالباً ما كان الآباء في الماضي يتحوّلون إلى مجرّد "مموّلين" لتلك الأسرة، غير أن هذا المفهوم بدأ بالتقلّص شيئاً فشيئاً مع إقدام النساء على ميدان العمل خارج المنزل، انطلاقاً من حاجة مادية حيناً، ورغبةً بتحقيق الطموح والذات الفردية أحياناً.

(وتخطر في بالي هنا على سبيل النكتة ولفت النظر في آن، أغنية تعلّمها إبني في عامه الدراسي الأول مؤخراً، تقول كلماتها: هات يا بابا هات، هات مصروفي هات، تَ جبلا للماما 3 هديات. وحدة لمحبّتها، وحدة لسلامتها، ووحدة لعيد الأمّهات"! )

بالمقابل، تُظهر تجارب كثيرة لعائلات منفتحة على أنماط وأساليب الحياة العصريّة، أن الآباء المنغمسين في الدور الأسري والتربوي والرعائي لأولادهم بشكل مساوٍ لدور الأم نسبياً، يتمتّعون هم وأولادهم بصحّة نفسية وتوازن فكري ومعنوي وخلقي أكبر بكثير من الآباء والأولاد المتحدرين من أسر تقليدية لا تؤمن بمبدأ المساواة على أساس النوع الإجتماعي، ولا بأهمية الشراكة في الأدوار بين الأب والأم. 

بهذا المعنى تتحوّل الأمومة إلى قضيّة خاصّة بالرجال، وتنقلب كل المقاييس والمعايير، وسط حاجتنا الملحّة لإعادة النظر بمنظومة العادات والتقاليد والموروثات القديمة التي تحكمنا وتتحكّم بمصير حياتنا، والوقوف وقفة تأمّل في مصلحتنا كبشر - أمّهات وآباء على حدّ سواء – وفي مصلحة أولادنا أولاً وأخيراً، ما يستدعي التوقّف عن السَّكَر أو الإنتشاء في سحر الإطراء، للتمعّن أكثر فيما يمكن أن يخبّئه هذا الإطراء من مدلولات ومقاصد قد تكون حلوةً ومغرية في الشكل، لكنّها قد تكون بالمقدار نفسه هالكة ومدمّرة في الأبعاد والمضمون.. 
فكلّ عام وكل الأمهات والآباء بصحّة نفسية وفكريّة منطلقة نحو الحياة بانفتاح وإيجابية ولا محدودية.. وللحديث تتمة!