Advertise here

جدلية التماهي بين المثالي والواقعي عند كمال جنبلاط

29 آذار 2021 09:54:44

حفلت نقاشات أجيالٍ ما بين أوائل القرن العشرين وحتى ثمانينيات القرن، بنقاشاتٍ ثقافية غنيّة بين المثقفين العرب حول مفاهيم أساسية في السياسة. وقد يكون أشهرها على الإطلاق ثلاثة مواضيع شكّلت سلّم الأولويات في شعارات أحزابِ تلك المرحلةً:

الموضوع الأول هو الاختلاف في النظرة للنظام الاقتصادي بين مؤيّدي النظام الراسمالي، ومؤيّدي النظام الشيوعي. والموضوع الثاني هو الاختلاف بين نظريّتي الكيانيّة والوحدة في العالم العربي، ومفهوم الأمة. والموضوع الثالث هو موضوع الحرية.
 
لقد كان تصنيف معسكرَي اليمين واليسار العربيّين آنذاك ينطلق من النظرة إلى موضوعَي الوحدة والاشتراكية. فكان اليساريون العرب  بمجملهم شيوعيّي الهوى ووحدويّ النظرة، فيما صُنِّف الكيانيّون وأنصار النظام الرأسمالي باليمين العربي. أما الحرية فبقيت شعاراً موحّداً في كل عناوين الأحزاب، يميناً ويساراً. 

حقّق اليسار العربي الصاعد انتصارات أوصلته إلى الحكم في الكثير من الدول العربية الناشئة حديثاً بعد رحيل الاستعمار، في ظل خلافاتٍ حادة بين الحكّام الجدد حول سلّم الأولويات للمواضيع الثلاثة: هل يكون شعار الوحدة قبل الاشتراكية أم بعده. فتبنّى الناصريون ومن كان يواليهم مقولة أولوية الحرية على الوحدة، وتبنّى البعثيّون أولوية الوحدة على الحرية، فيما كان معنى الاشتراكية مفهوماً هجيناً يخضع في كل حزب، ومع كل حقبة، للتأرجح بين الشيوعية السوفياتية وشقيقتها الصينية، وبين الاشتراكية  الغربية، على مثال شيوعيّي فرنسا وإيطاليا، وسواها من الأحزاب الاشتراكية الغربية. 

غير أن وصول اليسار العربي إلى الحكم، جعل من شعار الحرية سجناً عربياً كبيراً، سواءً كان يوضع في عناوين أحزابهم قبل الاشتراكية والوحدة، أو بعدهما أو بينهما، وذلك بالاعتماد على أنظمة مخابرات ديكتاتورية، فصارت الأنظمة توتاليتارية تحت شعار الحرية المصادرة بحجة حماية الثورة. 

أما شعار الاشتراكية، فجعلته هذه الأنظمة أداةً لإفقار الشعوب لمصلحة من تسلّقوا سلالم الحكم على ظهور الأحزاب، ونشأت طبقة أغنياء الأنظمة الثورية على حساب إفقار الشعوب.

وحده كمال جنبلاط غرّد خارج السرب. 

وحده جعل قيمة الحرية أعلى القيَم  وأولها في شعار حزبه، وجعل الاشتراكية توزيع الثروة بالعدل، إلى حد التخلّي عن أملاكه الموروثة لصالح الفقراء، وعاش حياة تصوّف ليكون المثل والمثال. وجعل الشعار الثالث العروبة بدل الوحدة، فكان مناقضاً ومتناقضاً مع اليسار العربي، ولكن من موقع العاقل الواعي المستشرف لما ستقود إليه هذه الشعارات، فلا هو تخلّى عن الخصوصية الكيانية لصالح دمجٍ غير مدروس لشعوب عربية لا تملك كل مقومات الوحدة، ولا هو أنكر وحدة الأمة العربية الثقافية والحضارية، والسعي إلى توحيد الموارد والطاقات من أجل الانتصار في القضايا المركزية والمصيرية، وفي مقدّمتها قضية فلسطين، طارحاً رؤيا تشابه ما قام به الأوروبيون بعد نصف قرن من مقاربته للتكامل العربي، ومع ذلك فقد كان تصنيفه يسارياً بامتياز من قِبل أهل اليمين، وجانحاً إلى اليمينية من قِبل أهل اليسار، وعلى مساحة كل العالم العربي.

 ومع ذلك، فقد كان المقرّب من النقاء الثوري لعبد الناصر، والحائز على جائزة لينين من قِبل رأس يسار تلك الأيام، أي الاتحاد السوفياتي. وفي نفس الوقت كان صديق رأس اليمين العربي، أي المملكة العربية السعودية.

ما سرّ هذا التفرّد الذي نرى الحاجة إليه اليوم؟
السرّ بسيط، والإجابة سهلة، فحيث يكون للعقل مساحة عند المفكّرين المنطلقين من وطنيّتهم، ويكون لأفكار كمال جنبلاط مكاناً وملعباً واسعاً. وهذا حال أهل العقل والعلم والحوار،  المتمثّل آنذاك بجمال عبد الناصر، والملك فيصل والممثّلين الحقيقيين لأفكار الحزب الشيوعي السوفياتي. أمّا حيث  تتغلب شهوة السلطة والمال، فيضيق صدر مصادِري السلطة، ومُفقِري الشعوب، وخانقي الحريات، عن تقبّل فكر كمال جنبلاط.

استشهد كمال جنبلاط لسببين أساسيّين:
تقديمه للحرية في شعاره على ما عداها من اشتراكية وعروبة، وسعيه نحوها، بخلاف أهواء حكّام يدّعون العفة ويحاضرون فيها، وهم أبعد الناس عنها،

وتبنّيه لفلسفة العروبة بدل فلسفة الوحدة، على أسس توزيع الثروة في مجتمع كفايةٍ وعدل، ليس بين مواطني كل كيان من كيانات الأمة العربية، بل أيضاً بين الكيانات العربية نفسها، التي بدونها يصبح الشعار فارغاً من المضمون، وخيالي التحقّق، ولكنه يخدم من وصلوا إلى السلطة من الأحزاب المصنّفة زوراً باليسارية، ليصبح وصفة مزوّرةً لاستمرارهم في السلطة. 

إنّه جمال الاعتدال الذي جعل من كمال جنبلاط فيلسوفاً محكوماً عليه بالاستشهاد، للاختلاف الجذري بين الشعارات التي رفعتها الأنظمة العربية والممارسة التي عاشها كمال جنبلاط وجسّدها في مسيرته في تطابقٍ قلّ نظيره بين ما يقوله، ويؤمن به، وما يفعله، أي بين المثال والواقع .