Advertise here

شجرةُ تفّاحٍ

26 آذار 2021 16:25:00 - آخر تحديث: 26 آذار 2021 19:12:23

خريفُ البشرِ أمْ خريفُ الشّجر؟ عريُّ شجرِ التّفّاحِ أمْ وهنُ الفلاّحِ وعجزُه؟ أيُّ الأمورِ أبكي؟

لوحتانِ امتثلتا أمامَ ناظري: لوحةُ البشريّةِ ولوحةُ البريّةِ. أيّامٌ تكرُّ وليالٍ تمرُّ، شموسٌ تسطعُ وأقمارٌ تلمعُ، أوراقٌ تذبلُ شبابٌ يذوي، ربيعٌ يزولُ وأفئدةٌ تقولُ:                                                               
"فيا ليتَ الشّبابَ يعودُ يومًا       فأخبرَه؛ بما فعلَ المشيبُ" " أبو العتاهية"

لوحتانِ غريبتانِ غرابةَ هذا الوجودِ، تلخّصانِ حكايةَ البشرِ وقصّةَ الشّجرِ. منْ ربيعِ الطّفولةِ إلى صيفِ الشّبابِ المتّقدِ حرارةً ورجولةً إلى خريفِ الكهولةِ إلى شتاءِ الشّيخوخةِ والوهنِ والفناءِ.

حكايةُ كلِّ آدميٍّ يرفضُ الفناءَ، قصّةُ كلِّ شجرةٍ معطاءةٍ. خريفُ البريّةِ يداهمُ مفاصلَ الطّبيعةِ كما يداهمُ خريفُ البشريّةِ مفاصلَ الإنسانِ، فيصيبُه الانحلالُ، ويشارفُ على الزّوالِ. الخريفُ وجهٌ منْ وجوهِ الحياةِ. والحياةُ تتلاقى والسّنةَ في فصولِها: لهذهِ ربيعٌ ولتلك ربيعٌ. السّنةُ تنشأُ وليدًا وتورقُ وتزهرُ وتتعرّى وتموتُ. والحياةُ تنبثقُ طفلًا فشابًا فشيخًا تطويه الأرماسُ. وكأنَّ النّاسَ أوراقٌ في شجرةِ التّفّاح. صدقَ جبرانُ بقولِه: "إنَّما النّاسُ سطورٌ كُتِبَتْ لكنْ بماء". تلكَ هيَ الحياةُ دارُ ممرٍّ. فاكتسبْ منَ الطّفولةِ براءتَها، ومنَ الشّبابِ عطاءَه، ومنَ الكهولةِ حكمتَها، ومنَ الشّيخوخةِ بصيرتَها. واجعلْ لحياتِك بصمةَ خيرٍ وذكرى سعيدةً لمنْ يأتونَ منْ بعدِك.

استفقْتُ منْ شرودِي هذا عندَما سقطَتْ على رأسِي ورقةٌ صفراءُ تعِبةٌ مرتجفةٌ منْ أوراقِ شجرةِ التّفّاحِ في حديقتِنا. تلكَ الشّجرةُ الّتي أعطَتِ الكثيرَ، فأطعمَتِ الجائعَ واسقبلَتْ أجواقَ العصافيرِ بينَ أوراقِها الخضراءِ اليانعةِ الفتيّةِ. وفتحَتْ لي ذراعيْها في أيّامِ القيظِ لأستريحَ تحتَ جذعِها. ها هيَ اليومَ معَ قدومِ الخريفِ قدِ انحلَّتْ قواها، وسقطَتْ أوراقُ عمرِها ورقةً تلوَ أخرى، تسوقُها الرّيحُ الهوجاءُ إلى شقوقِ الأرضِ وحفرِها. ها هيَ عاريةٌ والعواصفُ تعبثُ بِها وتستخفُّ بقدراتِها. ناكرةً ما قدّمَتْه، جاحدةً ما أعطَتْه على مائدةِ الوجودِ منْ إثباتِ وجودٍ.

اليومَ شجرةُ التّفّاحِ تبكي وتئنُّ، ولكنْ...لا أحدَ يكترثُ. الفلاّحُ قطفَ إنتاجَه واستراحَ، وأطعمَ عيالَه واكتفى. والطّبيعةُ تتمايلُ معَ الرّيحِ العنيفةِ المبشّرةِ بتجدّدِ الحياةِ لا يُخيفُها حزنُ الأوراقِ الذّابلةِ الهاويةِ منْ شجرةِ التّفّاحِ. سرعانَ ما تبدّدَ قلقُ الشّجرةِ عندَما شاركَتِ الأغصانُ العاريةُ الرّيحَ القويّةَ رقصةَ التّجدّدِ واستمرارَ الحياةِ واعدةً بأملِ الغدِ البهيجِ معَ تفتّحِ البراعمِ الفتيّةِ الخضراءِ.

حقّاً، إنَّ الحياةَ تهلّلُ للأقوياءِ لا الخاملينَ الرّاقدينَ الّذينَ لا يعطونَ ... لكنَّهم دائمًا يأخذونَ.

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".