كل اللبنانيين مجمعون على دور وتضحيات المقاومين في سبيل حماية لبنان من العدو الإسرائيلي منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي وحتى عام التحرير، وكلّهم يحتفظون بذكريات مشرقة ومشرِّفة لمرحلة إسناد مهمة التصدي للعدو الصهيوني لحزب الله منفرداً بعد حلّ الميليشيات، في مرحلة بقاء الاحتلال الاسرائيلي على أجزاء عزيزة من الوطن.
لا ينكر الفضل إلّا جاحد، ولا يُنكر التضحيات إلّا حاقد، ولا يفرّط بتراب الوطن إلّا خائن.
ولئِن كان تحرير الجنوب من الاحتلال قد تمّ إبّان مرحلة حصرية المقاومة بحزب الله، سواءً كان ذلك بالنسبة للبنانيين، طوعاً عند بعضهم، أو قسراً عند بعضهم الآخر، فإن ذلك لا يلغي عرفان الجميل لكل من استُشهد، أو جُرح، أو خسر ابناً أو أباً أو قريباً، أو حتى من تهّجر مرات ومرات، وخسر المال والبيت في كل مرة. كما لا يلغي ذلك أنّ التاريخ سيكتب، وعلى صفحته الأولى، علَمَ حزب الله وصور شهداء المقاومة، وهم بغالبيتهم من أهل الجنوب.
كل ذلك صحيح، لكن إذا كان الإنسان موضوعياً فعليه أن يرى الصورة، ويقرأ الوقائع بعين الناقد العادل، والوطني العاقل، حتى في زمن غياب العدل والعقل.
في الجانب الآخر من الصورة هنالك أيضاً حقائق لا يمكن إغفالها، ولن يغفلها التاريخ عندما يُكتب.
الحقيقة الأولى هي أنّ حصر المقاومة بحزب الله لم يكن خيار كل المقاومين السابقين، بل كان قراراً فرضه ميزان القوى آنذاك، الراجح كلياً لمصلحة الحكم في سوريا، وحلفائه الجدد في إيران، فتمّ إقصاء الجميع، طوعاً أو قسراً، عن ممارسة شرف المقاومة التي لا شكّ أنّ حزب الله قد مارسها بكل شرف، وجدية، وفعالية، حتى التحرير عام ألفين. ولكن هذه المقاومة هي الاستمرار في السياق الطبيعي لتضحيات من سبقها ممن بذلوا الأرواح في سبيلها، ولا يدّعي عكس ذلك إلّا مكابر.
والحقيقة الثانية هي أنّ دور المقاومة بعد التحرير كان ينبغي أن يتحوّل من الهجوم على المحتل إلى الدفاع عن الوطن، وإن كان تحرير فلسطين يبقى ركناً من أركان النضال بشرط ألّا يكون صليباً يحمله لبنان منفرداً في ظل انكفاء عربي شامل يسير فيه وطنٌ صغير على درب الجلجلة وحيداً، فيما تبقى بقية الدول العربية، وحتى الإسلامية، بعد ثورة الإمام الخميني في صفوف المصفّقين الذين يصنعون لشهدائنا التوابيت، ولو كانت مذهّبة، دون أن يستعملها أحدٌ منهم.
والحقيقة الثالثة هي أن المقاومة أُعجبت بنفسها إلى حدٍ يشابه إعجاب العقل، أول مبدعات الخالق، بنفسه مما أوجب على المبدع خلقَ ضدٍ له حتى لا يقوده الإعجاب إلى الخيَلاء التي تقود إلى الدكتاتورية، ولو كانت دكتاتورية العقل.
والحقيقة الرابعة هي أنّ المقاومة نشأت في لبنان، ومن لبنان، ولأجل لبنان، كل لبنان، وليس من أجل جزءٍ، أو منطقة، أو حزبٍ، أو طائفة، حتى تصبح رديفةً لمذهبٍ بدل أن تكون رافعةً لوطن.
أما الحقيقة الخامسة فهي أنّ التمسّك بالسلاح في يد فريقٍ يغلِّب طائفته على بقية الطوائف، ويعتبر أنّ للمقاومة ثمناً يجب أن تقبضه هذه الطائفة من الوطن، هو أمرٌ فيه مغالاة في غير محلّها، فثمنُ العزّة يُسدَّد لكل الوطن، ومن كل الوطن، بطيب خاطر، لمن أعاد العزة والكرامة بعدلٍ بين كل المقاومين أياً كان انتماؤهم، دون إغفال القيمة الأعلى للتحرير من العدو الصهيوني. وحق صاحب هذه القيمة في إهداء جزءٍ منها للوطن، وجزءٍ منها لمن كان رافعةً للمقاومةً، وبيئةً حاضنة لها .
وأخيراً فإن إعجاب المقاومة بنفسها، والذي قادها إلى تجاوز دورها الوطني إلى دورٍ إقليمي يفوق طاقتها السياسية على احتمال استقلال قرارها، جعلها رهينةً أيديولوجية وعسكرية بيد من تدين له بصلابة عودها، وانتصاراتها، وصمودها، ومنعها من أن تعود إلى جذورها اللبنانية لتأخذ حقّها رضائياً في المشاركة الفاعلة في الحكم، من دون تفرّد أو طغيان، كما حصرها بين جدران بيئتها التي لن تسلم، في يومٍ من الأيام، من التشقّق والثغرات بفعل الفقر والعوز، وتوق الناس إلى العودة إلى مجتمعٍ مدني. فالعسكرة لا تدوم، بل قد تكون أداةَ تفجير من داخل المجتمعات، والتاريخ خير دليل على ذلك.
لقد استنفدت المقاومة في لبنان كل احتياطها من منطقٍ، وعسكرة، وسلاح، كما انحصر احتياطها الأيديولوجي ببيئتها الشيعية بعد وضوح لعبة الأمم، وصراع الدول على المصالح. وكلّما تقدّم الوقت، وانجلت الحقائق، ورست التفاهمات بين القوى الإقليمية والدولية على اقتسام مغانم الشرق الأوسط المريض، كلّما استنفدت فعالية الأيديولوجيا آخر احتياطيات المقاومة.
لقد آن الأوان أن تنتج المقاومة، من داخلها، ما ينقذها من نفسها حتى ينحسر إعجاب العقل بنفسه فينتصر عليه ضدّه. فالزمن زمن جوع، والبطون الخاوية لا تصنع انتصارات، والفقر عدو غير مرئي، ولهذا قال الإمام عليه السلام، "لو كان الفقر رجلا لقتلته".