Advertise here

قتيل الكيانين

19 آذار 2021 12:27:35

ما عرفتُ كمال جنبلاط إلّا وحده. ما عرفتُ كمال جنبلاط إلّا مدثّراً بوحدته، متجلبباً بجلباب الوحدانية. ينسج حول عنقه غيمة، كوفية فلسطينية. يضع على صدره ياقة عربية: "ياقة إبراهيم". يضم كياناً ضائعاً. كياناً إبراهيمياً ضائعاً. وإليه يضمّ كياناً عاطراً من جبال الأرز. كياناً طفلاً يخشى عليه أن يضيع.

هرع كمال جنبلاط وحده، منذ أول عهده، يسألُ مع السائلين: لماذا أضعتم فلسطين؟ لماذا ضاعت فلسطين؟
 
اعتصمَ بنفسه. شقّ الصفوف. شقّ شرنقة الحرير. خرج إلى العالم طائراً مثل نسر، يشهر يديه: ماذا بعد أيها البغاة؟ ماذا بعد أيها الطغاة؟ ماذا بعد أيها الحاقدون؟ 

 أين لبنان؟ أين الكيان؟

 حاول أن يضمّ إلى صدره من جديد: الكيان الذي ضاع، والكيان الذي يمشي على درب الضياع.

كان لا بد أن يؤاخي بين "المهاجرين" و"الأنصار". بين المخذولين، التوّابين، القادمين من أبواب القدس، من أبواب فلسطين، وبين المخذولين التوّابين المتوجسين، من وطن الأرز. دعا لرباط من"الأخوة اللبنانية- الفلسطينية" تدافع عما تبقى من لبنان في فلسطين، وعمّا تبقى من فلسطين في لبنان. وعمّا تبقى من الروح في عتمة الليل، وفي وحدة الروح والانكسار.

 تضوّأ كمال جنبلاط، قبل غيره من الزعماء، بجوهر الحقيقة. حقيقة الأخوة الفلسطينية- اللبنانية، التي ستحكم الضياع المهول، في برهتَي الانحسار والانكسار: برهة الجلاء عن فلسطين العام 48، وبرهة الانكسار في الحرب لأجل فلسطين العام 67.

تموضع  كمال جنبلاط وحده، بين جبال الجليل، وأجران قانا الجليل. يردّ، يصد. ويوقف الزحف، ويوقف النزف. وقد اتّسع الجرح، وضاعت القدس، وضاع معها نهر الأردن. وضاع كل تراب فلسطين.

رأى رأي العين، رأي القلب، كيف يقلّب الغزاة الزاحفون أنظارهم، أرض لبنان. تتوجس بحراً بعيداً، يهدر من أعالي لبنان. يصب دماءه، على شاطئ فلسطين يغسل أقدامها. يدفع بدمه الغزو الجديد: اسمه الليطاني.

توحّد كمال جنبلاط، بجراح الأخوة اللبنانية- الفلسطينية، تختلط فيها الدموع بالدماء، في حيفا، وفي عكا، وفي قمة جبل الكرمل، وسفوح الجليل، وحرمون، ووادي التيم، وجبل الشيخ، والشوف. 

 اندفع كمال جنبلاط وحده، يردّ "هزيمة اليوم" الذي نحن فيه. يستبق مشهد الضياع السابق. يشيح بأبصاره للضياع اللّاحق. قرأ جيداً في تلك الهزيمة القديمة، وجه الهزيمة الجديدة، وجهَ ضياع الكيان. وجه ضياع لبنان.

خرج كمال جنبلاط وحده، إلى العالم العربي، وعاد مخذولاً. 

خرج كمال جنبلاط وحده، إلى الشرق، وعاد مخذولاً.

خرج كمال جنبلاط إلى الغرب، وعاد مخذولاً.

خاض في البحر. سار في البر. كان سؤاله واحداً: كيف نمنع ضياع الكيان، بعد ضياع الكيان. فما جاءه جواب، على سؤاله القديم، على سؤاله اليتيم، من أحد.

 كمال جنبلاط وحده، معتصماً بالكيان، يريد إنقاذ لبنان، قبل تفجير الكيان.
 
التحم بفلسطين رفع كوفية الشهيدة، وعلا بها نسرا. علا بها صقرا. من جنوب الجنوب، إلى شمال الشمال. ينادي على الشهيدة، يؤاخي أهلها. يتوحّد في جراحها. يحسب كل قطرة تسيل. كل دمعة تسيل. بعض دم صدره. بعض دم كفّيه. بعض نزيف قدميه. بعض دموع عينيه. 
 
كمال جنبلاط وحده، استبق السقوط المريع الذي يهوي بنا. أراد دفعه بما ملكت يداه: عهداً من المؤاخاة بين شعبين. مقاومة واحدة تؤاخيها "مقاومة مساندة". فيمنع عنه السقوط. يدفع عنه "امتناع السقوط".

مشى كمال جنبلاط الدرب وحده إلى الجلجلة. كان خياره أن يدفع عن الكيان، بكل يديه. أن يعود لبنان سالماً، من ملعب يهوذا، فلا يساق إلى جهنم، ولا يذوق الكأس المرّة، كأس تفجير الكيان، وتفجير بيروت.

 كمال جنبلاط وحده هذا العام، يوقّع شهادته عن الضياع القبلي. عن  الضياع البعدي. يوقع جرحه، عصر السادس عشر من آذار كل عام،  يوقّع اسمه. يوقّع دمه. تحت أرز الشوف، وفوق أديم الكيان، فوق أديم لبنان:
 يوقّع، كمال جنبلاط:  "قتيل الكيانين".

*أستاذ في الجامعة اللبنانية

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".