Advertise here

كمال جنبلاط "وحبة الحنطة"

16 آذار 2021 09:20:45

تأخذنا ذكرى استشهاد المعلم كل عام إلى تلك اللحظات المأساوية التي اختزنت الآلام المصحوبة بالمخاوف على الوجود، كما تأخذنا الى الجراح العميقة التي أثارت في حينها الكثير من الأسئلة ومنها: لماذا كمال جنبلاط؟ ومن أقدم على هذه الجريمة الشنيعة؟ والسؤال الكبير الذي طُرح في تلك اللحظات الحرجة، ما هي أهداف إزاحة هذه الشخصية الوطنية والعربية والأممية عن المسرح السياسي في لبنان، في الوقت الذي يتحضر فيه هذا البلد لتحولات كبرى؟

هذه الأسئلة سرعان ما ظهرت الأجوبة عليها، وسرعان ما تبين أن هذه الجريمة التي أقدم عليها النظام السوري، لم تندرج فقط في خانة الانتقام من كمال جنبلاط لرفضه التدخل العسكري السوري ومقاومته رغم اختلاف ميزان القوى، وإصراره على حماية استقلال لبنان وسيادته، إنما كانت ايضاً على خلفية إنهاء مشروع التغيير الديمقراطي الذي كان يحمله كمال جنبلاط. وسرعان ما ظهر الغطاء العربي والدولي لما أقدم عليه النظام السوري، الذي الذي كان قد عقد تفاهماً مع الادارة الاميركية آنذاك لوضع منظمة التحرير الفلسطينية تحت آلة الضبط السورية والقبض على القرار الوطني الفلسطيني وتحجيم ياسر عرفات.

اغتيل كمال جنبلاط على وقع التفاهم الاميركي- السوري المحاط بحدود الخطوط الحمراء الإسرائيلية، وعلى وقع القراءة الخاطئة لنظام حافظ الأسد في أن اليمين المسيحي أصبح في جيبه، وعلى وقع التبسيط الذي كان يسيطر على قراءة علاقة هذا اليمين بإسرائيل وسياساتها العدوانية والتوسعية.

وحده كمال جنبلاط بقي متمسكًا بقراءته لمخاطر هذا اليمين وعلاقته بإسرائيل خصوصاً في جنوب لبنان، ورسالته الأخيرة الى حافظ الأسد قبل استشهاده بأيام، خير شاهد على التحذيرات التي أطلقها في هذا المجال.

اغتيل كمال جنبلاط على وقع كل هذه التحولات، وللأسف لم يسمع أحد نداءاته ومخاوفه، ولكن سرعان ما ظهر للنظام السوري آنذاك نتائج قراءته المبسطة لنوايا اليمين المسيحي ومواقفهم وانقلابهم على الوجود السوري على وقع كامب ديفيد وغيرها من التحولات الدولية والإقليمية. وسرعان ما أقرّ هذا النظام بصوابية قراءة كمال جنبلاط لمواقف اليمين المسيحي وتحالفاته وارتباطاته والتزاماته المشبوهة. لم يفصل كمال جنبلاط في قراءته هذه بين مواقف اليمين المسيحي من الصراع العربي الاسرائيلي، وارتباطها بتاريخ طويل من الصراع على جبل لبنان الذي يبقى حجر الزاوية في ميزان القوى المحلي.

بعد أربعة وأربعين عامًا على اغتياله، وفي ظل الأزمة الوجودية التي نتخبط بها، نعود ايضاً الى صوابية قراءته الى أسباب أزمة النظام السياسي اللبناني القائم على الطائفية والمذهبية والمحاصصة. وفي ظل المشاريع المطروحة والمخاطر الوجودية، يعود مشروع كمال جنبلاط الوطني الى الواجهة، المشروع الذي يهدف الى بناء دولة عصرية قادرة على رسم السياسات في المجالات كافة خدمة للمواطنين اللبنانيين، وخدمة للمصالح الوطنية العليا. وكذلك مشروع بناء نظام سياسي قائم على المواطنة والمنافسة السياسية، بدلاً من النظام المهترئ الذي ما انفكّ ينتج الأزمة تلو الأزمة.

بعد أربعة وأربعين عاماً على استشهاده تعود الى الواجهة مسألة سيادة لبنان وموقعه في المعادلة الإقليمية، ومسألة القرار الوطني المستقل الذي إن لم يتحقق سيبقى مصير لبنان معلقًا على التحولات وموازين القوى الدولية والإقليمية.

بعد أربعة وأربعين عامًا على استشهاد المعلم، تظهر أكثر من اي وقت مضى حكمة وليد جنبلاط في خياراته السياسية منذ لحظة قيادته للمسيرة وحتى اليوم، كما تظهر أهمية التحالفات الوطنية والعربية والدولية التي عقدها لحماية الوجود الوطني في الجبل، لاسيما عندما تعرض الجبل وأهله لمشروع ازالة وجودهم وتهجيرهم.

وحدها خيارات وليد جنبلاط العربية وتحالفاته وحنكته السياسية هي التي شكلت السند الأساسي الذي اجتمع مع التضحيات الهائلة في الميدان لحماية الوجود الوطني في الجبل وبيروت وفتح الطريق إلى الجنوب المقاوم. للأسف لم ينظر إلى هذا الإنجاز بأبعاده الوطنية والاقليمية، ولا بأهميته في المعادلة الجديدة في الجغرافيا السياسية لجبل لبنان.

ونشهد اليوم بعض الأقلام التي تصور مواقف وليد جنبلاط في بعض المراحل السابقة في "موقع المتخلي عن جزء من ارادته للنظام السوري". هذا التبسيط في قراءة مواقف وليد جنبلاط ليس بريئاً، وربما فاتهم الهامش الكبير الذي احتفظ به وليد جنبلاط في تلك المرحلة، والمواجهات التي خاضها مع النظام السوري وأجهزته الأمنية للحفاظ على قراره المستقل في محطات مختلفة. وفي المقابل، فإن قراءة وليد جنبلاط ومواقفه واستراتيجيته في تلك المرحلة على هذا النحو الظالم والمبسط، هي بالتأكيد قاصرة عن إدراك وفهم عمق المواجهة التي حصلت على أرض الجبل عام 1982، وكذلك ابعادها الاقليمية والدولية. التأريخ لتلك المرحلة ولمواقف وليد جنبلاط يحتاج الى عقول وأقلام قادرة على إدراك هذه الابعاد وروابطها التاريخية. أما الاقلام الساذجة والغبية والحاقدة، لا يمكن ان تقدم تفسيراً منطقيًا وقراءة واقعية وعميقة لهذه المعادلات الكبرى، ولمواقف وليد جنبلاط واستراتيجيته التي نجحت في مواجهة التحديات الكبرى وفي الحفاظ على وجود هذه الشريحة العربية في جبل لبنان وراشيا وحاصبيا.

وأخيراً، من ظن ان اغتيال كمال جنبلاط سيقلب الصفحة، أدرك أن الصفحة ما زالت مفتوحة والكتاب أيضًا، والسادس عشر من آذار تحول الى شعلة لا تنطفىء. كمال جنبلاط يشبه حبة الحنطة التي قال فيها السيد المسيح: حبة الحنطة وإن ماتت تأتي بثمرٍ كثيرٍ.