Advertise here

الفصل الأخير في اغتيال لبنان

16 آذار 2021 05:45:00 - آخر تحديث: 16 آذار 2021 06:03:01

لا تنفصل المأساة الماثلة بقضّها وقضيضها اليوم في حياة اللبنانيين "الذين ليس على صدورهم قميص"، عما حصل منذ 44 سنة. فكارثة اليوم ليست إلا النتيجة الحتمية للاغتيال الذي هزّ لبنان، لا بل الشرق والإنسانية برمّتها، في 16 آذار 1977. كل ما يحصل راهناً هو تتمة الفصل الأخير للمشروع الذي كان بدأ باغتيال كمال جنبلاط، بقصد اغتيال الوطن.

في العام 1975 تحسّس كمال جنبلاط خطورة ما تتجه إليه تطورات المسار السياسي المحلي والإقليمي، وتنبّه لمتغيرات الرياح الدولية وتقاطع المعطيات والأحداث مع النظريات التخريبية، كنظرية "تحالف الأقليات" الهادمة لفكرة لبنان وعلّة وجوده وتنوعه وحرياته، فحاول المعلّم ورفاقه في الحركة الوطنية التصدي لهذا الانحراف الانتحاري المختزن لدى بعض الداخل وللنزق التوسّعي لدى بعض الخارج القائم على أحلام دفينة. لكن ولإسقاط محاولة المعلّم الإنقاذية، كان القرار المشؤوم بتصفيته جسدياً سعياً للقبض على ناصية البلاد، وتمهيد الطريق أمام اغتيال البلد بأكمله. على دماء كمال جنبلاط وتحت وطأة تعاظم التدخل الخارجي وتزايد الجنون المحلي، دخل لبنان آتون الحرب الأهلية، التي شكّلت في جانب كبير منها مواجهة قاسية ضد مشروع تدمير لبنان، وقد كان وليد جنبلاط بارعاً في مواجهة مرامي هذا المشروع، فواجَه ببطولة وبسالة مع جيش التحرير الشعبي على جبهات القتال، وأبحر في الوقت نفسه عباب السياسة بمهارة غير معهودة استطاع فيها دفع أكثر من بلاء عن لبنان. ورغم قساوة المرحلة والأثمان الباهظة، وقد كانت ظروفاً مختلفة، نجح في كسر سلسلة ذلك الطوق، بدءاً من لحظة إيقافه مجازر ردة الفعل بُعيد اغتيال والده، إلى مواجهات شباط 1983 وصولاً إلى 13 آب 1989، إلى الطائف، ولاحقاً إلى المصالحة التاريخية التي توّجت مسار استعادة التنوع، إلى انتفاضة الاستقلال التي أخرجت السيادة من الوصاية الأمنية المباشرة.

مأساة لبنان الراهنة تشكل في كل ما تحمله من مصائب آخر فصول المشروع التدميري ذاته، فالكيان برمته مهدد، وكل مقومات وجوده تتلاشى، والعاملون على خط التدمير هم أنفسهم، في الخارج وأدوات الداخل، وإن اختلفت بعض التسميات وتبدلت بعض المواقع، وتمظهرت شعارات جديدة خُلّبية. والنتيجة نعيشها كل يوم: بلد معزول، ومواطن مقهور، واقتصاد متلاشٍ، وكباش صلاحيات طائفية، وتدمير للدولة والمؤسسات، وارتهان كامل لأنانية المصالح الشخصية وحسابات المصالح الخارجية. 

المشهد بالغ التراجيديا، عميق الأذى. الجغرافيا السياسية في أقسى ارتداداتها هذه الأيام، والانهيار المالي فادح النتائج. وحده مشروع كمال جنبلاط هو المدخل للعلاج. لا سبيل لقيام لبنان من قعر الانتحار الذي يهواه البعض سوى عبر دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية ومجتمع الكفاية والكفاءة والعدل، هي رؤية كمال جنبلاط والإرث الكبير الذي حمله وليد جنبلاط ونسج عليه بالتضحيات في شتى المحطات منذ لحظة 16 آذار 1977. 

القلق المصيري على الكيان راهناً، هو حجر الرحى في كل تفكير حريص يمكن التعويل عليه لإنقاذ لبنان. وبعد 44 سنة على اغتيال كمال جنبلاط تبقى رؤيته الإصلاحية وبرنامجه الوطني العابر لحدود الزمان خشبة الخلاص الوحيدة لانتشال البلاد من قعر الغرق. وطريق النضال طويل وشاق، فليكن كلام الشاعر الفلسطيني توفيق زياد نبراس هذه الأيام: "صموداً أيها الناس... صبراً على النُوَب.. ضعوا في العيون الشمس.. والفولاذ في العصب".