Advertise here

في الذكرى شوقٌ ... وألمٌ... وعبرة

14 آذار 2021 09:22:05

وتمرّ السنوات، الواحدة تلو الأخرى، تضيء لنا حقائق، وتكشف لنا وقائع، وتُسقِط الأقنعة عن مراحل متتالية مرّت على الساحة اللبنانية، وتتوضّح صورة مغزى وهدف التصفيات الجسدية عبر الاغتيالات بقراراتٍ إقليمية أو دولية، من أجل التغيير الجذري للخارطة السياسية.

 نستذكر المعلّم الشهيد كمال جنبلاط في ذكرى استشهاده، ليس للوقوف على الأطلال، ولا لاجترار أقواله، ولا للتجييش العاطفي، بل للتمعّن في الواقع الذي وصلت إليه البلاد عبر سلسلةٍ متواصلة من الأحداث، عقب اغتياله الذي كان الضربة القاضية على المشروع الوطني العلماني في لبنان. 

 لم يكن مسموحاً، لا إقليمياً ولا دولياً على الإطلاق، جعل لبنان نظاماً تقدمياً ببعديه الوطني والقومي، لكي لا يؤثر بشكلٍ مباشر على محيطه بكافة الأنظمة الحاكمة، وبالتالي لا بد من تحويل النضال الوطني إلى عصبيّات مذهبية وطائفية. وكم أخطأ أرباب المارونية السياسية آنذاك بعدم التوافق مع البرنامج المرحلي للإصلاح الذي تقدمت به الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة المعلّم كمال جنبلاط، إذ أن التنازلات التي أقدموا عليها في اتّفاق الطائف أكثر بكثير من ما ورد في البرنامج المرحلي للإصلاح. وبعدها كرّت سبحة التنازلات، وكان أخطرها أنهم تنازلوا عن سيادة لبنان وقراره المستقل تحت شعار تلازم المسارين، وكذلك في النظام الأمني الذي فُرض والذي تنازلوا بموجبه عن الحرية الفكرية التي طالما تغنّوا بها.

 ومع الاجتياح الإسرائيلي دخل لبنان في صلب الشرذمات المذهبية والطائفية. ومنذ ذلك الحدث بدأت التحوّلات من الصراع الوطني إلى الصراعات المذهبية المتنقلة، وهذا مطلب دولي لتغذية الصراع في منطقة الشرق الأوسط، والذي أوصلنا اليوم إلى الانقسام الحاد بين محورَي الخليج العربي وإيران.

 وبعد أن تمّ القضاء على معظم رجالات الدولة الكبار في لبنان، دخل أقزام السياسة الحلبة اللبنانية، ففرغ مجلس النواب من أهم المشرّعين، وطغى رجال الأعمال النافذين، وكبار التجار المستوردين، إمّا على المقاعد النيابية، أو على بعض السياسيين الجدد ضعيفي النفوس، والبعيدين كل البُعد عن الانتماء الوطني، وأصبح التشريع في خدمة كبار القوم على حساب الشعب اللبناني ولقمة عيشه.

 وبعد تمدّد النفوذ الإيراني إلى ساحل المتوسط عبر سوريا ولبنان، أصبح لبنان رهينة هذا النفوذ، ووُضِع في سجن الحصار الدولي والعربي لمواجهة النفوذ الإيراني، ومن الطبيعي أن يدفع الشعب ثمن هذا الحصار عبر أزمتيه المالية والاقتصادية. هذه الأزمة المتفاقمة، والتي انفجرت في أيامنا هذه لعدة أسباب منها سياسة المحاصصة التي نظّمها النظام السوري في عهد وصايته على لبنان والتي حصد منها جزءاً مهماً من ثروة لبنان، ومنها ما غنمته من ثروات الطغمة الاقتصادية المتحالفة مع السلطة الحاكمة، وصولاً إلى أسوأ عهدٍ شهده لبنان، حيث الصفقات والسمسرات كانت العنوان البارز للهدر العام بدءاً من أزمة الكهرباء مروراً بالأشغال العامة، وصولاً إلى الجمارك والتهريب الحاصل، إضافةً  إلى العديد من الملفات المشبوهة لدى معظم الوزارات.
 
يعيش اللبنانيون ذكرى شوق لعودة رجالات دولة كبار بكل ما للكلمة من معنى، أصحاب المواقف التي تدعم لبنان ولا تفيد مصالحهم الخاصة. يعيش اللبنانيون فترة ألمٍ على حلم وطنٍ ضائع، وواقعٍ معيشي مرير. يعيش اللبنانيون فترة تأملٍ لأخذ العبرة أن الحياد العالمي الذي سار معه المعلّم الشهيد كمال جنبلاط مع حركة عدم الانحياز التي أسّسها كلٌ من عبد الناصر وتيتو، وسوكارنو، ونهرو في ظل الحرب الباردة آنذاك، هو الخيار الوحيد لتجنّب الوقوع في صراع مصالح الدول الكبرى.

 وتبقى الذكرى الشمعة التي تعطي نوراً للإهتداء بمن ترفّع عن صغائر الأمور، وناضل بشموخٍ وكرامة من أجل أن يحيا الإنسان حراً سعيداً.