نبقى في العراق، في حضرة "الحاج" البابا فرنسيس ومفاعيل زيارته التاريخية وكلماته الرسالة في لقاءاته التي أبرزت التنوّع التراثي والديني والسياسي في البلاد. نستخلص منها العبر ونستلهم درب الشراكة والأخوة والإنسانية باعتبارها من وصايا الله لنا، فنعود إلى لبنان الذي خصصه البابا منذ أسابيع بكلام دقيق معبّر حول ميزة وجود المسيحيين والقلق على تناقص عددهم مؤكداً أن هذا الوجود ليس مرتبطاً بالعدد بل بالدور، بالوظيفة المرتبطة بدورها بالكيان، كيان لبنان الكبير، لبنان التنوّع، العلم، المعرفة، الثقافة، الحريات، الجامعات، المستشفيات، التجربة، النموذج، والذي وصّفه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في زيارته التاريخية إلى أرضنا بالقول: "لبنان هو رسالة".
بعض "التياريين الوطنيين" ودعاة التسلّح في "الوسط المسيحي"، ومنظّري "الفيدرالية التقسيمية" و"المتطرفين" رأوا في كلام البابا فرنسيس تعبيراً عن أدبياتهم ومواقفهم وسياساتهم وانحرافاتهم عن الدور الحقيقي للمسيحيين، وعن وظيفة الكيان المميزة وعن بلاغة مضمون كلام البابا يوحنا بولس الثاني. نعم، الصغار في مواقفهم ونفوسهم وشهواتهم إلى السلطة، والمتمسكون فقط بالكراسي، والطامحون إليها، والمتصارعون عليها، راحوا يتصرفون وكأن الحبر الأعظم البابا فرنسيس هو "الرئيس الفخري" لتيارهم أو حزبهم، أو تنظيمهم، وأنه استلهم كلامه من تجاربهم "الناجحة والعقلانية والحكيمة"!! إنها لكارثة حقيقية. فماذا يستطيع أن يفعل البابا الحالي إذا لم يكن المعنيون بالدرجة الأولى بكلامه على مستوى المسؤولية والأمانة والرسالة والوصية؟؟ وما هو مصير وطن "الرسالة" إذا ابتعد هؤلاء عن الرسالة، وخرجوا عن مضمونها وعمقها وأداروا ظهورهم الى "الوصية" بعدم الابتعاد عن الآخر، وسلكوا طريق الحقد والكراهية التي"تغطي غيومها نور السماء" و"ينبشون القبور"، و"يحرّضون طائفياً" و"يدمّرون مؤسسات الدولة" و"يتكبّرون على الآخر"، وكأنهم لم يروا مشهد الكبيرين المتواضعين آية الله السيستاني والبابا فرنسيس في النجف!! ويثيرون الانقسامات بين الناس ويرتكبون بالتالي خطيئة "خيانة الدين".
وكل ذلك يجري باسم حقوق المسيحيين. وكم من المعارك خيضت وتخاض بأساليب مختلفة على وظيفة في الإدارة. وهي على أهميتها وأحقيتها ضمن الأصول والدستور وعلى قاعدة المعيار الواحد، فهي لا يجب أن تسيىء إلى إدارة الوظيفة بل الى تعطيلها، وعندما نقول إدارة الوظيفة نعني إدارة وظيفة لبنان في محيطه لنحفظ "الكيان الكبير" بحدوده الجغرافية وميزاته الاستثنائية.
إن البعض يتصرف في لبنان وكأن العالم لم يتطور. كأننا لم نعش تجارب كثيرة مكلفة مدمرة ينبغي أن تُعلمنا كيف نحفظ النعم التي لدينا والقيم التي لدينا والجوهرة التي بين يدينا وكيف نكون على مستوى أمانة حفظها. وبعض آخر لا يقرأ التحولات والتغيرات ولا يقدّر عواقب القرارات والسياسات والتوجهات. أليست تلك هي العبثية الخطيرة المهددّة للجميع؟ وللإنصاف فإن ثمة مسؤولية تقع على الشريك أيضاً لكنها بالتأكيد لا توازي "مسؤولية" صاحب القضية أو "الحق" إن جاز التعبير وفق منطقه وخطابه، علماً أن القضية قضية الجميع، والحق هو حق الجميع، والإيمان هنا وهناك يجب أن يتكامل أصحابه على الأرض في البحث عن المشترك وتثبيته لحفظ الرسالة والأمانة.
سأبقى أعود الى كلام كمال جنبلاط: "إن النصرانية وديعة الاسلام في هذا الشرق كما أن الاسلام وديعة النصرانية فيه"، لأجدد التأكيد على حجم الأمانة والتحدي الذي نواجه للمحافظة على لبنان الكبير ، و"النعمتين الوديعتين القيمتين"، و"الثروتين" المميزتين قبل فوات الأوان. نحتاج هنا الى إدارة جيدة حكيمة عاقلة للوظيفة اللبنانية، وهي الأساس لنحافظ على وظيفة في الإدارة هنا أو هناك!!
إن كلمات البابا يوحنا بولس الثاني في لبنان، وكلمات البابا فرنسيس عنه في الفاتيكان، وكلماته بالأمس في العراق، خير مرشد ودليل ورسالة نور ووعي للمستقبل. هل يرتقي تجار وظيفة الإدارة التي أساؤوا اليها الى مستوى التبصّر والتعمق بهذه الكلمات والعمل بهديها وتصحيح المسار والتركيز على إدارة وظيفة؟