Advertise here

الحياد الواعي

09 آذار 2021 05:35:00 - آخر تحديث: 21 أيار 2021 18:42:49

فكرة الحياد من عمر فكرة لبنان ومآلها تاريخيا حزين وواهٍ كمآلِه.

لم يكن الحياد يوما خياراً لبنانياً جامعاً ولا كانت المجموعات اللبنانية بتكوينها محبّذة للحياد أو شغوفة به إلا في لحظات اللجة، حاولتُه في أزمان ضعفها وخوفها وتنكّرت له في أزمان بأسها وسطوتها.

ليس في حاضر لبنان ما ليس له شبيه او نظير في تاريخه. التاريخ اللبناني مجاف للحياد. ففي الرواية اليقينية المؤرخة، اول اللبنانيين قدموا اليه قبائل يمنية غير محايدة (التنوخبون والارسلانيون ثم المعنيون) استوطنت جبال لبنان الجنوبية  لحماية الشواطئ بمواجهة الغزاة البيزنطيين لأرض الخلافة الأموية وما كانوا محايدين البتة. لبنانيون أيضا أقاموا في نظير تلك الجبال ولم يطل بهم المقام حتى انحازوا علانية للغزاة الصليبيين وما كانوا محايدين أبداً، فيما كان غيرهم يشن الهجمات على الصليبيين ويرابط لهم على الدروب الى القدس. لبنانيون أيضاً انحازوا الى المماليك فيما لبنانيون آخرون دفعوا أثماناً لحملاتهم قتلاً وتهجيراً وتنكيلاً دينياً. في معركة عين جالوت في العام 1264 تراص اللبنانيون على ضفتي الحراب بين المماليك والمغول، فيما انتظر بعضهم على هضبة الحياد المؤقت لمن ستكون الغلبة. لم يستطع اللبنانيون حياداً بين المماليك والسلطنة العثمانية فثار بعضهم على العثمانيين لأجل المماليك ثم حالفوا العثمانيين ضد الصفويين ثم عاهدوا  الدول الاوروبية ضد العثمانيين، وفيما كان بعضهم ينسج علاقاته مع الدولة الصفوية في فارس، كان بعضهم الآخر يستنجد بملك فرنسا فرنسوا الأول لضمان وضع خاص له في رحاب السلطنة. عند بدء انهيار السلطنة رسمت كل مجموعة لبنانية خرائطها الخاصة وتحالفاتها الخاصة، منهم من انحاز إلى لبنان الصغير ومنهم من انحاز إلى لبنان الكبير ومنهم من اختار إمارة فيصل العربية قبل ان تسقطها اتفاقية سايكس - بيكو في معركة ميسلون في العام 1920.

في تاريخنا الحديث، عاش لبنان في كنف فرنسا إلى أن نال استقلاله، فوُضع الحياد بمواجهة العروبة سواء كان عنوانها فلسطين وقضيتها او مشروع الوحدة العربية الذي بلغ ذروته مع جمال عبد الناصر وتهجير الفلسطينيين الى لبنان.

وقف المعلم كمال جنبلاط الى جانب أيقونات الحياد العالمي: الرئيس جمال عبد الناصر ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو والرئيس اليوغوسلافي جوزف تيتو والرئيس الاندونيسي احمد سوكارنو في منظمة عدم الانحياز بين المعسكرين الشرقي والغربي في اعقاب مؤتمر باندونغ في العام 1955، فيما فضّل الرئيس الراحل كميل شمعون الانضمام الى حلف بغداد لمواجهة المد الشيوعي الذي اطلقته الولايات المتحدة الاميركية مع بريطانيا وباكستان والعراق وايران في نفس العام فكانت اولى الاهتزازات الاهلية بعد الاستقلال، وكرّت سبحة الانحيازات والتحالفات التي وضعت اللبنانيين على ضفتي انقسام مديد، مدمر وعميق: مصر بمعناها القومي وفلسطين بقضيتها المحقة وسوريا البعثية بأطماعها الشرهة، ثم العدو الاسرائيلي باحتلالاته الدامية وما بين كل ذلك من إنزالات دولية ومظلات وجيوش غير محايدة. 

إيران ترث اليوم جميع الانحيازات وتختصر كل دوافع الانقسام: الأمويين والعباسيين والمماليك والصليبيين والعثمانيين والمغول والعرب والقضية الفلسطينية وحلف بغداد والعدو الاسرائيلي وسوريا البعث ومصر عبد الناصر، وتتوج نفسها عنوانا سافرا للانقسام اللبناني. 

ايران طموحة، واللبنانيون تعبون، هي متوثبة وهم مرهقون، ومَن تعود الحلم منهم بات اليوم  يتواضع ويكتفي بالصيغة اللبنانية على ضحالتها وهشاشتها ازاء المآتم الوطنية وخيام العزاء المتجولة في العالم العربي، والأهم أن إيران لا تنتمي الى وجدانهم التاريخي، والمحور الذي تتزعمه يمثل اكثر القضايا بغضا لديهم خاصة في سوريا ومقتلة الالاف فيها، وشعار القضية الفلسطينية ذبلت  مصداقيته في ظل توسله شعاراً لبعثرة المزيد من الخرائط في بلاد العرب وتفخيخ مجتمعاتهم وبذر المزيد من المجموعات المسلحة التي استهلكت معجم اللغة العربية في وفرة اسمائها المدججة بالدم، الثارات، والإلهيات.

كلما ازداد الذعر ازداد عدد اللبنانيين الذين يلهجون بالحياد وتوسعت طائفة الداعين له وانضمت اليها مجموعات لبنانية كانت الى أمد قريب تنظر اليه بوصفه خنجرا يحز وريد انتمائها وهنا أصل النقاش.

اي حياد لا يمتحن لبنان في عروبته مجدداً جدير بالنقاش، وأي حياد يناقض او يتجاهل عروبة لبنان هو أقصر الدروب الى مقتلة جديدة.


باتت العروبة بلا أحلام كبرى وتضاءلت الى حدود السلم الداخلي للمجتمعات الوطنية، لكنها لا يمكن ان تتواضع في مسائل ثلاث: التأييد السياسي للقضية الفلسطينية، وعدم الوقوع في هاوية التطبيع مع العدو الاسرائيلي، والالتزام السياسي بقضايا السلم الداخلي والمصالح الوطنية للدول العربية.

في الأولى لم يعد الفلسطيني يرى في لبنان مقراً أو ممراً لخطوات فدائييه لتحرير فلسطين، وقد طوت فصائل الخارج بنادقها وتحوّلت إلى لجان أمنية في المخيمات المحاصرة وناب عنها نضال الشعب الفلسطيني من داخل فلسطين التاريخية؛ في الضفة والقطاع كما في الداخل الفلسطيني المحتل في العام 1948 ولكل ساحة سبل نضالها المبتكرة، والمخيمات الفلسطينية في لبنان اكثر  بؤسا، سلماً وهدوءا من الكثير من المناطق اللبنانية، وبالتالي فقد سقطت مبررات العداء التاريخي للفلسطيني إلا ما علق في النفوس من وساوس يدخل علاجها في اطار علم النفس والاجتماع لا علم السياسة والمنطق. وقد كانت طروحات رأس  الكنيسة المارونية غبطة البطريرك بشارة الراعي متبصرة في مقاربتها للقضية الفلسطينية بمعناها الفلسطيني والعربي لكن ايضا بمعانيها اللبنانية رغم ما ووجهت بكركي به من تخوين مقيت، ظلامي وفاجر.


في الثانية، "اسرائيل" عدو وستبقى عدواً بالنسبة الى طيف واسع من اللبنانيين، نحن منهم، كما بالنسبة الى كل عاقل ومتبصر لبناني بالقناعة او بالمصلحة، وأي مقاربة حيادية لا تصنف العدو الاسرائيلي خارج دائرة الحياد محكومة بالفشل لأنها ستتحول الى انقسام جديد، مدمر، وغارق بالشقاء، وما بعض الهمهمات من بعض اللبنانيين المقيمين في مراكز الأبحاث أو التأثير أو القرار أو المغتربات الفكرية والسياسية عن التطبيع أو بعض المقاربات المحلية  الأخرى للقضايا  الداخلية بعقل القرار 1559 سوى تسميم لمبادرة البطريرك الراعي وإعدام وطني لها في ذهن الكثير من المكونات اللبنانية.

في الثالثة لا يحتمل لبنان أن تكون دولته أسدية في سوريا وحشدية في العراق وحوثية في اليمن وأن يتحول كل صاروخ يطلق على السعودية مثاراً للأهازيج السياسية وتوزيع الحلوى على الجذلين المبتهجين بقصف بلد عربي.


أعترف أن تعبير الحياد يستفزني شخصيا، فهو بحد ذاته إشكالي تاريخيًا ومثار حساسيات كامنة منذ حاجج لبنان في عروبته. الرئيس ميشال سليمان حاول تفاديه بتعبير النأي بالنفس. غبطة البطريرك الراعي أسماه الحياد الايجابي والنشط وربما تكون فكرة الحياد الواعي أقل وطأة على العقول والمسامع والذاكرة، الحياد الواعي لهوية لبنان العربية وقدره التاريخي والجغرافي بالانتماء الى عروبة منهكة، مترنحة، وذابلة، لكنها ضمان سلامه الداخلي على ضآلتها.

بغير ذلك يصبح الحياد انحيازا وانتحاراً، وقد مللنا من الاثنين.


*ينشر بالتزامن مع جريدة "النهار"