Advertise here

توأمة الدبلوماسيّة والديمقراطيّة في استراتيجيّة بايدن الأمنيّة

07 آذار 2021 08:24:32

انزلقت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في وثيقة "استراتيجية الأمن القومي المرحلية" التي نشرها الرئيس الأميركي جو بايدن هذا الأسبوع، من مرتبة تهديد الأمن القومي الأميركي بحسب تصنيف الرئيس الأسبق دونالد ترامب، حيث أتت مباشرة بعد الصين، واستقرّت في خانة "الردع" بأدوات الدبلوماسية والديموقراطية. ستردع إدارة بايدن تهديدات إيران سيادة الدول الأخرى في المنطقة وسلامتها "لكننا لا نعتقد أن حل مشكلات المنطقة هو استخدام القوة العسكرية، ولن نعطي شيكاً على بياض لشركائنا الذين يتبعون سياسات تتعارض مع المصالح والقيم الأميركية في الشرق الأوسط، ولهذا السبب سحبنا دعم الولايات المتحدة للهجمات في اليمن"، قال الرئيس بايدن في وثيقته. هذا فيما كانت إدارته وكان شركاؤه الأوروبيون يدينون الهجمات الحوثيّة المتكرّرة على السعودية بدعم إيراني وأسلحة إيرانية - باعتراف كبار المسؤولين العسكريين الأميركيين - إنما الإدانة البالغة الحذر تجنّبت عمداً تحميل إيران المسؤولية. فالأوروبيون يعيدون تكرار ما فعلوه عام 2015 عندما هرولوا لتلبية شروط طهران وغضّ النظر عن سلوكها الإقليمي ضد سيادة الدول العربية، متذرّعين بأولوية التوصّل الى اتفاقية نووية مع إيران. وإدارة بايدن جاهزة لإعادة ضبط وتعديل reset العلاقات الأميركية بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، بما يضمن لها النجاح الذي تنشده في السياسة الخارجية، حتى وإن لبّت طهران وشروطها عبر البوابة الأوروبية.
 
وثيقة بايدن تخلو من أدوات التأثير والنفوذ الملموس، وتكاد لا تأتي على ذكر الأدوات التي ميّزت إدارة ترامب، أي العقوبات والضغوط القصوى. أدوات بايدن، كما حددها في استراتيجيته، هي دبلوماسية بامتياز، بحيث تعكس اقتناع إدارته بأن الدبلوماسية التقليدية، بعيداً عن العقوبات أو التهديد باستخدام القوة العسكرية، ستضمن حماية المصالح الأميركية على المستوى العالمي.
 
العقوبات التي تؤمن بها إدارة بايدن مفصّلة وليست مبدأً عاماً، إذ إنها تطبّق على دول معينة مثل روسيا. رأي بايدن وفريقه هو أن "الديموقراطية" تشكّل سلاحاً في وجه "الاستبدادية"، ما سيمكّن الولايات المتحدة من الانتصار على الأنظمة التي تنفرد بالسلطة بحكم مُطلق مثل الصين وروسيا.
الديموقراطية، بحسب الرئيس بايدن، هي "الفضيلة الأساسية لمصلحتنا" our most fundamental advantage في "خضمّ النقاش حول مستقبل العالم" بين مسار الديموقراطية ومسار الاستبدادية "ويجب علينا أن نثبت أن نموذجنا ليس رفاتاً في التاريخ" relic of history.
الديموقراطية والدبلوماسية هما توأمان في استراتيجية الأمن القومي الأميركي، كما يراها الرئيس جو بايدن بعد مرور 45 يوماً على توليه منصبه، وكما دوّن في وثيقته التي أسماها "مرحلية" interim ما قد يحفظ له خط الرجعة إذا أتت عليه صدمة الواقعية. هذان عنوانان جميلان، لكن استخدامهما كأدوات تحفيز أو تأثير مع الأنظمة الاستبدادية autocracy والأنظمة التي تتبنى منطق الاستبدادية - الدينية theocracy ليس مقنعاً.
فإما أن يكون في ذهن الرئيس الأميركي الجديد وإدارته غضّ النظر عن ممارسات الأنظمة المستبدّة، اضطراراً، حرصاً على المصالح الأميركية الكبرى في المعادلات الجغرافية - السياسية. أو أنه سينتقي معاركه مع هذه الأنظمة بصورة لا تؤثّر في صلب الاعتبارات الأمنية والجغرافية - السياسية. أو أنه سيتراجع عمليّاً بعد أن يواجه فعلياً استحالة اعتماد توأم الديموقراطية والدبلوماسية كركنٍ أساسي في السياسة الخارجية الأميركية. هذه الخيارات لا تنطبق فقط على الصين وروسيا اللتين تشكلان أكبر تهديدين للولايات المتحدة، بحسب وثيقة بايدن، وإنما أيضاً على شتّى دول العالم.
 
التمسّك بالمحاسبة على انتهاكات حقوق الإنسان مع الحرص على مؤازرة الناشطين في تحدّي السلطوية والاستبدادية يتطلّب أكثر من مجرّد البيانات والإدانة. يتطلّب أن يكون جزءاً من استراتيجية وليس مُسكّناً لتحويل الأنظار. فإذا كان في ذهن إدارة بايدن محاسبة دول الشرق الأوسط على خروقات حقوق الإنسان، عليها عدم استخدام ورقة التين للتغطية على ممارسات كل دول الشرق الأوسط، العربية منها، وإسرائيل، وتركيا، وإيران. تطبيق "القيم" التي تحدّث عنها الرئيس بايدن في وثيقة الأمن القومي، إذا كان انتقائياً، فإنه قد يسيء أكثر مما يفيد.
 
قد يكون مفيداً لإدارة بايدن أن تفكّر خارج الصندوق وتدقّق في انتهاكات السلطة في لبنان لحق الشعب اللبناني في الحصول على معونة دولية لوقف الانهيار والاستنزاف بقرار من "حزب الله" ومن رجال الحكم الفاسدين برمّتهم. في وسع إدارة بايدن أن تتخذ من لبنان نموذجاً لاهتمامها بحقوق الإنسان، بدءاً بحق الناس بالحياد والحق بتحقيق دولي حول ارتكاب جريمة ضد الإنسانية بتخزين مواد النترات المتفجرة في مواقع مدنية، وانتهاءً بعدم السماح بالإفلات من العقاب للضالعين في تفجير مرفأ بيروت المروّع، من خلال تقصّي الحقائق وبمساعدة مباشرة من الـFBI الذي اطّلع على مأساة المرفأ. هذه ليست مسألة تغيير النظام في لبنان. إنها مسألة انتهاكات صارخة لحقوق الناس بالخلاص من تسلّط السلطة الحاكمة العازمة على المضي بانتهاكاتها، لأن ما يسمّى بالأُسرة الدولية ترفض محاسبتها وتسمح لها بالإفلات من العقاب. سوريا متورّطة. روسيا متورّطة. الدول الأوروبية تترك المسألة لفرنسا التي تتخبّط كعادتها في سياساتها المتأرجحة. إدارة بايدن قادرة على إحداث علامة فارقة في سعيها وزعمها أنها حريصة على حقوق الناس. المؤسف أنها على الأرجح لن تفعل، وذلك لأنها، شأنها شأن الأوروبيين، منغمسة في أولوية إرضاء إيران. وطهران لن تسمح لا للولايات المتحدة ولا للدّول الأوروبية بأن تتعاطى مع ملف لبنان لأن لبنان في قبضتها. وهذا مجرّد مثال على أسباب رفض الجمهورية الإسلامية الإيرانية أيّ محاولة للبحث في السلوك الإيراني الإقليمي عند التحدّث عن إحياء الاتفاقية النووية. هكذا فعلت عام 2015 وثم أسهبت في مشروعها الإقليمي في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وهكذا تنوي أن تفعل بمباركة أميركية وأوروبية.
 
وثيقة بايدن لا تتحدّث عن إيكال مهام تفاوضية للدول الأوروبية كجزء من استراتيجية الأمن القومي الأميركي، لكنها عمليّاً تفعل ذلك تماماً بتعاطيها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكوسيلة للتفاوض بين واشنطن وطهران. خُلاصة الفكرة المتَّفق عليها مسبقاً هي تقليص المطالب من إيران الى العلاقة بينها وبين الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لا غير. هكذا يمكن لإدارة بايدن أن تلبّي الشروط الإيرانية. وهكذا يمكن للقيادات الإيرانية أن تضمن تلبية إدارة بايدن شروطها عبر القناة الأوروبية.
 
بدعة الأوروبيين الأخيرة تجسّدت في مشروع قرار إدانة إيران أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما لبثت أن سحبته كي تتمكن طهران من التراجع، مقابل السحب، عن رفضها الموافقة الأميركية على إجراء محادثات حول إحياء الاتفاقية النووية JCPOA بموجب طروحات أوروبية. إنها مسرحية شد الحبال. والى حين وضوح وإيضاح المواقف والتصريحات المتضاربة لأقطاب إدارة بايدن، يحبس العالم أنفاسه وينتظر نتائج المبارزة الأميركية - الإيرانية، لأن تداعياتها مصيرية، لا سيّما للدول الرابضة تحت سيطرة الحرس الثوري الإيراني الرافض طرح السلوك الإقليمي على طاولة المفاوضات.
 
فلا إيران ولا الصين ولا روسيا ولا كوريا الشمالية ارتجفت خوفاً مما أعلنه الرئيس الأميركي في وثيقة "استراتيجية الأمن القومي الموقّتة" هذه، استراتيجية توأمة الديموقراطية والدبلوماسية في التصدّي لدول تقهقه على الفكرة بحد ذاتها. فالمسألة وجودية لهذه الأنظمة، واستراتيجياتها قد تكون عقائدية أساساً، لكنها براغماتية بامتياز. فهي لن تستهتر بالولايات المتحدة الأميركية بسبب وثيقة بايدن الموقتة، وذلك لأنها تؤمن بأن الولايات المتحدة الأميركية لا تديرها إدارة منتخبة لأربع سنوات وإنما المؤسسة الحاكمة أو ما تسميه الدولة العميقة. ففي رأي هذه الدول، أن سذاجة الوثيقة هدفها التغطية على سياسات أميركية خبيثة.
 
القيادات الإيرانية متمسّكة بشرط رفع إدارة بايدن "جميع العقوبات" عن إيران وهي تعتمد على الدبلوماسية الأوروبية ذات العصب الطري لتضمن الليونة الأميركية والخضوع لرفع العقوبات مباشرةً أو عبر البوابة الأوروبية، بدفعة كبرى أو بدفعات. فطهران لن تتراجع. إنها مقتنعة بأن إدارة بايدن هي المضطرة للصفقة مع إيران، لا العكس. فالثقة عارمة بين أركان النظام في إيران، الثقة بالنفس والثقة بخضوع الأوروبيين للاستراتيجية الإيرانية، والثقة بأن توأمة الدبلوماسية والديموقراطية في استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن إنما تقع تماماً في المصلحة الإيرانية.