فضاءات ثلاثة متقاتلة-متكاملة: الإيراني- الإسرائيلي- التركي
02 مارس 2021
07:40
Article Content
لم يشهد المشرق العربي (بالمعنى الأوسع، أي من طرابلس غرباً إلى بغداد شرقاً، ومن دمشق شمالاً إلى اليمن والسودان جنوباً)، منذ انحسار المظلة العثمانية سنة 1918، من التحديات الاستراتيجية الوجودية المباشرة بالمقدار الذي باتت عليه منذ مطلع هذا القرن.
وأقصد منذ البدء ثلاثة بلدان عربية مشرقية جرى إسقاطها تدريجاً، وبآليات مختلفة، والتي كانت لفترة طويلة حرساً "تاريخياً" للمصالح العربية العليا والأمن العربي، بل والوجود العربي نفسه. والدول الاستراتيجية الثلاثة تلك، هي العراق، ومصر، وسوريا. وسنرى باختصار تداعيات خروج البلدان الكبرى الثلاثة من مسؤولية حماية المصالح العربية العليا والأمن العربي القومي.
أبرز التداعيات المباشرة تلك، كما سنرى، نشوء ثلاثة فضاءات طموحة، لم تكن بهذه القوة منذ عقود، ومن رحم الضعف الذي أصاب الجسم العربي، وانهيار دفاعاته الاستراتيجية، وبخاصة في العراق ومصر وسوريا؛ وهي فضاءات متقاتلة، متكاملة، في النتيجة.
في التمهيد للفضاء الأول، الإيراني، الممتد من أذربيجان إلى الساحل الشرقي للمتوسط، حرم احتلال الأميركيين للعراق سنة 2003 العربَ ركيزة استراتيجية من الدرجة الأولى لثرواته البشرية والمادية الضخمة. أولاً، فهو يوازي ديمغرافياً مجموع سكان الجزيرة العربية، عدا اليمن. كما تكرّس منذ 1916 كبلدٍ رئيسي منتج للنفط، وقبل أن يُكتشف النفط في ما بعد في البحرين، ثم في شرق العربية السعودية والأجزاء الخليجية الأخرى على التوالي. لكن أهمية العراق الاستراتيجية لم تقم، ثانياً، على مرتكزات ديمغرافية واقتصادية فحسب، بل قامت، وتقوم، بالدرجة الأولى، على مرتكزات جغرافية وتاريخية مهمة حتى درجة التميّز – وليس التفرّد. وبعض خصوصيته الاستراتيجية الحاسمة هو أن يحتكر، وحده، ولمسافة تزيد عن ألف وأربعمئة كيلومتر كامل حدود البوابة الشرقية مع إيران. وغير خفيٍ ما لذلك من معنى، بل معانٍ تاريخية، دينية- قومية على وجه التحديد. فمن جنوب العراق اندفع المسلمون العرب الأوائل شرقاً صوب الداخل الإيراني في ذروة الاندفاع العربي الإسلامي الصاعد وتفكّك الداخل الإيراني، دينياً وسياسياً، في آن معاً. وكان ذلك أمراً حاسماً لكليهما: المسلمون العرب والفرس، فبدّل في خمسين سنة، لا أكثر، وجه الهضبة الإيرانية ووسط آسيا الغربية، بخلاف مساحات شاسعة من الأراضي التي دخلها المسلمون العرب، وكانت فارغة تقريباً من أية بنى سياسية وإدارية سابقة للإسلام – مثل شمال إفريقيا – ووجد العرب في البرّ الإيراني دولة إدارية وسياسية مكتملة، مجتمعاً وديناً، أو دينَين (المانوية والزرداشتية) يتبعهما الملايين، حتى شرقاً خارج إيران. لكن الكيانين الإيرانيين القائمَين القويين، وهنا وجه الغرابة والقوة في الاجتياح الإسلامي- العربي، سقطا كلّياً، بعد مقاومة شديدة. وأكثر من ذلك، لم يقم لهما قائمة بعد ذلك: تفكّك الكيان السياسي، وتدريجاً انسحبت الديانتان القويتان لصالح أسلمة كاملة، وإن لم تنجُ، كما تبيّن لاحقاً، من تثاقف طبيعي لا مفرّ منه مع العناصر الثقافية المحلية.
في التمهيد للفضاء الثاني، الإسرائيلي، خسر الأمن العربي القومي ركيزته الثانية، الكبرى، مصر، منذ قبول البلد العربي الأكبر التفاوض على دوره الاستراتيجي في المنطقة، وذلك بتبادل الأرض المحتلة (سيناء) بدور مصر العربي الاستراتيجي. وتكرّس الأمر، بعد اتفاقية فصل القوات سنة 1974، وفي اتفاقية كامب دايفيد في سبتمبر 1978، والتي لم تُخرج مصر من العرب بقدر ما أخرجت العرب من دائرة اهتمام مصر. لم تكن مصر بعد كامب دايفيد نفسها مصر قبل كامب دايفيد. فبخروج الجامعة العربية من القاهرة لعشر سنوات، وخروج العرب من مصر لأجلٍ أبعد، حدثت انهيارات عربية عدة، مباشرةً أو بعد ذلك بفترة قصيرة. كان أبرز الانهيارات تلك الغزو العراقي للكويت سنة 1990- أمرٌ ما كان ليحدث في زمن هيمنة مصر على المشهد العربي- ثم الغزو الأميركي الأول للعراق سنة 1991، وهو أيضاً ما كان ليحدث بسهولة في "الزمن المصري". كذلك، ترك خروج مصر "العربية القومية" عن المسرح الإقليمي فراغاً ملأته التيارات الإسلامية المتطرفة قبل سواها لتتصدّر المشهد في المشرق العربي، وعلى حساب الأمن العربي القومي (وبخاصة "الإخوان" في مصر، وسوريا، والسودان، والأردن، وفلسطين، وأمكنة أخرى). فقد مثّلت مصر منذ تأسيس الجامعة العربية، ثم بمشاركتها القوية في حرب فلسطين الأولى سنة 1948، مروراً بعشرين سنة من الهجوم الناصري القومي الوحدوي العنيف (1954-1973)، المركز الاستراتيجي لحركة التاريخ في المشرق العربي. بل لعلها، ومن خلال خطابها القومي الوحدوي، هي التي صاغت اللّاءات العربية الأساسية في مواجهة الأطماع الخارجية. لكن مصر انسحبت إلى الحد الأقصى من مسؤولياتها العربية تحت ثقل الضغوطات الاقتصادية الداخلية الكارثية، والضغوطات العسكرية الإسرائيلية المدعومة من الغرب، (مع تقصير عربي إلى حدٍ كبير أشار إليه الشهيد كمال جنبلاط أكثر من مرّة) ما قادها إلى توقيع اتفاقية الصلح المنفرد في كامب دايفيد، والتي كانت مفصلية، وغدا ما بعدها لا يشبه ما قبلها على الأصعدة كافة.
لم تتخلّص مصر من ثقل الاحتلال الإسرائيلي لجزء ثمين من أراضيها (شبه جزيرة سيناء، وتعطيل قناة السويس)، حتى دخلت في مواجهة جديدة دفاعاً عن جزءٍ أثمن في كيانها، وهي الحفاظ على شريان ماء حياتها الوحيد، نهر النيل، في وجه التهديد الإثيوبي الصارخ والمباشر. ولم تكن الأصابع الإسرائيلية والأميركية بمنأى عن التهديد الجديد لأمن مصر الوجودي؛ الأمر الذي ألزمها من جديد في جعل أمنها الوجودي الخاص في رأس أولويات حركتها الخارجية (وهو منطوق تصريح وزير الخارجية المصري، سامح شكري، قبل أيام، حرفياً). ومعنى ذلك المزيد من التراجع في دور مصر القومي الاستراتيجي لصالح معالجة الاختراق الأثيوبي القوي، وهو أمرٌ لن يتحقق إلّا بالمزيد من التهدئة مع إسرائيل، وتعزيز التحالف مع الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة. المواجهة مستمرة وستطول، وسيجري ابتزاز متزايد لموقع مصر الاستراتيجي الفاعل، ولدورها في حماية المصالح العربية القومية.
وهكذا تمكّنت إسرائيل، بعد جهود متعددة الساحات بلغت ذروتها 1978، وكنتيجة مباشرة لخروج مصر فعلياً من ميدان المواجهة معها، من كسر حصار جغرافي عربي خانق، نجح العرب طوال سبعين سنة في إحاطتها به حتى درجة الاختناق. وتشكّل بوضوح فضاء إسرائيلي (أو متصالحٍ مع إسرائيل) يمتد على تقطّع من الخليج إلى المغرب العربي، ويؤذن بشرق أوسط مختلفٍ كلياً تهيمن عليه مالياً واقتصادياً وعسكرياً الدولة العبرية، الحلم التاريخي لآباء الكيان الإسرائيلي منذ ولادته القسرية الصعبة.
أما الفضاء الثالث، فهو التركي، أو "البانتراك"، الممتد من آسيا الوسطى إلى شمال سوريا، فشمال قبرص، فغزة، فطرابلس الغرب. الفضاء الأخير هذا المتشكّل حديثاً، هو بالغ الطموح، ويمتلك قوة دفع دينية- قومية واضحة. وبهذا المعنى فهو كما لو أنه انتقامٌ مزدوجٌ من سوريا والعراق تحديداً ومن العرب عموماً: انتقام "عثماني" يتكرّر في الأدبيات التركية العثمانية، وهو تحميل العرب الجزء الأكبر من مسؤولية خسارة السلطنة العثمانية من جهة، وانتقام "إخواني" من الأنظمة العربية القومية والتقدمية، كما بدا في انتفاضات الإسلاميين التاريخية في سوريا والعراق ومصر واليمن وليبيا والجزائر، وكما بدا أخيراً في اختراقهم للربيع العربي سنة 2011 وسيطرتهم عليه. الفضاء التركي هذا يصطدم مباشرةً بما تبقى من مصالح عربية، كيانية أو قومية، لكلٍ من سوريا والعراق ومصر، ناهيك عن ليبيا الواقعة فعلياً تحت الاحتلال التركي لجزئها الغربي، وعينهُ على شرقها لولا الحسابات الدولية حتى الآن.
ولا يخفي سياسيون ومؤرخون أتراك كُثُر (وهم مخطئون) تسجيل أن الموصل، وربما حلب أيضاً، كما حال الاسكندرون، كانت لقرون تركية وليس فقط عثمانية. كذلك لا تخفي تركيا تعاونها مع إيران في أذربيجان، وسوريا، والعراق، وتعاونها مع إسرائيل في الموضوع الفلسطيني، وحيال الجماعات المسلحة المعادية لها في سوريا. أما ليبيا فهي الآن (وبمعزلٍ عن ثرواتها ومواردها وأسواقها) المنصة التركية الأكثر ملاءمة للضغط الاستراتيجي على مصر من جهة، وعلى الضفة الأوروبية من المتوسط من جهة ثانية. هذه المنصّة الاستراتيجية هي الآن قيد التشكّل وربما التوسّع، وهي الحاجز الحقيقي بين محاولات تسوية الأزمة الليبية وبين نجاحها وإقفال جراحاتها.
باختصار، الفضاءات الثلاثة إنما نشأت من انهيار الفضاء العربي القومي الذي حالت آلياته، وتحالفاته الدولية، طوال عقود، وبخاصة في حقبة 1945-1973، دون انهيار "الدول" و"الكيانات" العربية. لقد حمى السقف العربي القومي الجامع آنذاك (حتى في لحظات ضعفه، 1967-1973) البلدان العربية التي تشكلت وفق تقسيمات سايكس- بيكو، وتلك التي استقلت لاحقاً، من التقسيم والانشطار والتجزئة، أو الاستتباع الواضح لمحاور خارجية.
أما وقد انهار السقف العربي القومي الجامع، فقد انهار النظام العربي القومي السياسي والأمني، ولو في حدّه الأدنى، وانهار الفضاء العربي كما فصّلنا سابقاً. أما الأكثر إلفاتاً فهو أن الانهيار لم يُطِح فقط السقف القومي، بل أطاح الدول والكيانات العربية الناشئة، فجعلها نهباً لموجةٍ عاتية من الانقسام والتجزئة والتذرّر في كل بلد تقريباً، بل وخسارة الأراضي (فلسطين والسودان نموذجاً). أما الدول "التاريخية" التي نجت من التقسيم والتذرّر فقد أُلزِمت الانزواء داخل حدودها تحرسها قبضة عسكرية قوية درءاً لمخاطر التذرّر والتجزئة (مصر، السعودية، الجزائر، المغرب، بعض حالات هذا النموذج).
لماذا حدث ما حدث؟ وكيف حدث؟ لقد كان المجتمع الدولي المحيط (روسيا، أوروبا الغربية، والولايات المتحدة) شريكاً كاملاً في إحداث الانهيار العربي، إضافة لأسبابٍ داخلية صارخة، أبرزها غياب الديمقراطية، والعجز عن إدارة الأزمات الاقتصادية والسياسية بنجاح. هي معطيات جلية إلى حد كبير، وتحتاج إلى معالجة مستقلة.