عندما تنتهي من قراءة ملخص الدراسة التي نشرها خبراء "صندوق النقد الدولي" عن أحوال دول العالم، بعد انحسار جائحة كوفيد-19، لا يمكنك إلّا أن تدقق في ما سيؤول إليه مصير دول كثيرة تعاني تشوّهات خطرة سابقة للجائحة، كلبنان، مثلاً ونموذجاً.
وفق هذه الدراسة التي اعتمد واضعوها على أسبقيات تاريخية، بدءاً بـ"طاعون جوستينيان" مروراً بـ"كوليرا باريس" وصولاً الى "الإنفلونزا الإسبانية"، كما على تشريح راهن للمتغيّرات، يتبيّن "أن الوباء يمكن أن يكشف أو يفاقم الصدوع التي يعاني منها المجتمع، مثل شبكات الأمان الاجتماعي غير الملائمة، أو عدم الثقة في المؤسسات، أو تصور اللامبالاة أو عدم الكفاءة أو الفساد من جانب الحكومة".
وتعتبر الدراسة أنّه "أثناء الجائحة وبعدها مباشرة، قد لا تظهر سريعاً الآثار الاجتماعية العميقة التي تتخذ شكل اضطرابات. فواقع الأمر أن الأزمات الإنسانية يُرجح أن تعوق سبل الاتصال والنقل اللازمة لتنظيم أي احتجاجات كبيرة. وبالإضافة إلى ذلك، فمن المحتمل أن يفضِّل الرأي العام التماسك والتضامن في أوقات الخطر. وفي بعض الحالات، قد تغتنم الأنظمة أيضاً فرصة الطوارئ لتعزيز سلطتها وقمع الآراء المخالفة".
لتنتهي دراسة "صندوق النقد الدولي" الى استنتاج مفاده "أنّ الاضطرابات قد تظهر مجدداً حين تخف حدة الجائحة. وقد تكون التهديدات أكبر، في الحالات التي تكشف فيها الأزمة عن مشكلات سابقة عليها، كالافتقار إلى الثقة في المؤسسات أو ضعف الحوكمة أو الفقر أو عدم المساواة، أو تتسبب في تفاقم هذه المشكلات".
إنّ التدقيق في هذا التشخيص يُظهر لبنان في طليعة الكيانات المرشّحة لحدوث تغييرات جوهرية فيها، فور أن تضع جائحة كوفيد 19 أوزارها، ذلك أنّ مشكلاته سبقت انتشار "كورونا" وتفاقمت في ظل هذا الفيروس، وبمعزل عنه، في حين أنّ المواصفات السيئة الموصوفة في الدراسة، متوافرة فيه، بقوة.
ويظهر بوضوح، على سبيل المثال لا الحصر، أنّ عجز الطبقة السياسية عن تشكيل حكومة ذات مصداقية، مستقل عن تأثيرات الجائحة التي هزّت أركان العالم، كما أنّ انفجار مرفأ بيروت الكارثي، لا صلة له بها، كما هي عليه حال التحقيقات المرتبطة بهذا الانفجار، ناهيك عن انهيار النظام المصرفي والعملة الوطنية وإفلاس الخزينة العامة، والانقسام حول موضع البلاد، في حمأة استتباعها لأجندة "الحرس الثوري الإيراني" بقوة سلاح "حزب الله".
ومن يضع ما ورد في دراسة "صندوق النقد الدولي" على ميزان ما ورد في خطاب البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، يكتشف أنّ الهوّة الهائلة التي تفصل "الجماعة السياسية" عن الطبقات الشعبية لا صلة لها بجائحة كوفيد- 19، بدءاً بتوريط لبنان في صراعات "الجمهورية الإسلامية في إيران"، وفي خلق كيانات محمية بالميليشيات موازية للدولة ومنافسة لها، مروراً بالفساد، وصولاً الى انعدام الكفاءة لدى غالبية الطبقة الحاكمة المنتجة، في منهجية "زبائنية" للقضاة والإداريين والقادة الأمنيين.
ولهذا، فإنّ لبنان يعتبر من الدول النموذجية التي يمكن أن تتحقق فيه النبوءات التي يمكن استخلاصها من التجارب التاريخية.
وهذا يعني أنّ الغضب الشعبي الذي انطلق قبل جائحة كوفيد 19 ميدانياً، وتفاعل، بأساليب مختلفة، في أثنائها، سوف ينفجر، بقوة كبيرة، مع بدء خفوتها.
ولا يمكن لبنان التعاطي مع الدراسات التي يعتمدها "صندوق النقد الدولي" في تقييم مستقبل الدول، على أساس أنّها نظريات عابرة، لأنّ هذه الدراسات تكون من الأركان الأساسية التي تبلور نظرة هذا الصندوق الى أيّ دولة في العالم.
و"صندوق النقد الدولي"، بالنسبة للبنان، مهم للغاية، لأنّ كل المساعدات الدولية الموعودة أو المرتقبة، رهن بما سوف تنتهي إليه، يوماً، المفاوضات المعلّقة راهناً، مع هذا الصندوق.
ولا تعتبر الدراسات التي ينكبّ الخبراء على إنجازها قدراً محتوماً، بل هي بالنسبة الى الدول الحيّة، بمثابة "جرس إنذار" حيناً ودليل عمل وقائي، أحياناً أخرى، بحيث يتم الاسترشاد بما تتضمّنه من تحذيرات، من أجل إنقاذ المجتمعات المعنية بها، من مصير غير مرغوب فيه.
إنّ الطبقة السياسية في لبنان يفترض أن تكون معنية بهذه الدراسة، لأنّ "الهامش" الذي توفّره لها جائحة كوفيد 19 سيتحوّل، في المستقبل القريب، إلى هوّة تبتلعها وتبتلع لبنان معها.
ولم يكن من باب كثرة الكلام بدء الدراسة، بسرد واقعة تاريخية تعود الى ما حصل في باريس عام 1832 ضد ملكها.
وتورد الواقعة التاريخية الآتي:
"ضربت جائحة الكوليرا الكبرى باريس عام 1832 (...) وسرعان ما بدأت مشاعر العداء والغضب تتجه إلى الملك الذي يفتقر إلى الشعبية. وكانت جنازة الجنرال لامارك – ضحية الجائحة والمدافع عن قضايا الشعب – هي الشرارة التي أطلقت تظاهرة كبيرة مناهضة للحكومة في الشوارع المحصنة بالمتاريس، وكلها مشاهد خلّدها فيكتور هوجو في روايته الشهيرة البؤساء. ويشير المؤرخون إلى أن تفاعل الجائحة مع التوترات السابقة لظهورها كان سبباً أساسياً لما أصبح معروفاً باسم "انتفاضة باريس" لعام 1832، وهو ما يمكن أن يفسر بدوره ما أعقب ذلك من قمع حكومي وتمرد شعبي في العاصمة الفرنسية في القرن التاسع عشر".
وليس سرّاً أنّ لبنان الحالي هو أشبه بباريس عام 1832، فـ"الملك" يفتقد الشعبية، وداعموه يثيرون الكراهية، والطبقة السياسية تجذب النقمة، والأداء السياسي يفاقم الغضب، بدليل ردود الفعل المستهجنة إعطاء أولوية التلقيح للنواب على حساب المستحقين من الشعب.
إنّ أخذ العبرة من "صندوق النقد الدولي" يفرض على جميع اللاعبين السياسيين أن يسارعوا، قبل فوات الأوان، الى اتخاذ القرارات الآيلة الى إصلاح حال الدولة، ليس بموجب ركائز "المبادرة الفرنسية" التي طوتها التطورات، بل وفق مقتضيات مشهد الصرح البطريركي الأخير، الذي ظهّر، بوضوح، أنّ مشكلة لبنان العميقة ليست تقنية فحسب، بل سيادية أيضاً.
ولكن، وفق ما يعلّق الواقعيون على كل طرح جاد: "على من تقرأ مزاميرك يا داود؟".
ذلك أنّ المتحكّم بهذه الطبقة السياسية مطمئن الى ما يمتلكه من قوة قمعية، وهو لا يأبه بدروس التاريخ، بقديمه وحديثه، حيث يظهر أنّ للقوة حدوداً، فهي إمّا تخبو أمام غضب الناس، وإمّا تقود الى مواجهات منتجة للفوضى حيناً، وللحروب أحياناً.