Advertise here

من هو محمد الباي المتهم بالإرهاب؟

26 شباط 2021 23:08:26

كتب الصحافي أيمن شروف:

كان محمد الباي، وهو شاب من طرابلس عمره 22 سنة، يجول في ساحة النور وحولها أثناء الاحتجاجات الأخيرة. وبعد يومين من إحراق مبنى البلدية، حاملاً معه البصل، وعبوة وضع فيها الخل الأبيض، يقترب من فتاة كانت تعاني من اختناق نتيجة استخدام الأمن لقنابل الغاز المسيّل للدموع. ينصحها بتنشق الخل الذي يساعدها على التنفس بشكل أفضل والتخلّص من الاختناق. يتحدث معها بصوت خفيض، مخبئا خلف ابتسامته لهفة تجاه كُل من مُتظاهر في ساحة النور.

اعتُقل محمد منذ ما يُقارب عشرين يوما ضمن الاعتقالات الكثيرة التي قام بها الأمن بحق محتجين في مدينة طرابلس شمال لبنان. ومنذ بعضة أيام، قرر مفوض الحكومة اللبنانية لدى المحكمة العسكرية، القاضي فادي عقيقي، الادعاء على 35 شابا من الموقوفين، وممن سبق أن أخلى سبيلهم، بجرم الإرهاب والسرقة.

محمد الباي من بين هؤلاء الشباب. التهم الموجهة إليه كبيرة وخطيرة. فمن هو هذا "الإرهابي" بنظر المحكمة العسكرية التي تحاكم مدنيين؟

محمد شاب وُلد لأسرة فقيرة في طرابلس تعيش في منطقة تُدعى ضهر المُغر. يُقال في لبنان إن التبانة هي من أفقر المناطق التي يُمكن أن يراها المرء. الحي الذي يقطن فيه محمد مع عائلته، أفقر من التبانة حتى، منزله عبارة عن غرفتين عليها أن تتسع لأكثر من 12 شخصاً في الحد الأدنى. توفي والده بعد ولادته، فقررت الوالدة أن تضع محمد ابنها في دارٍ للأيتام. كان عمره آنذاك قرابة الشهر.

عاش محمد سنين حياته الأولى في تلك الدار. تقول والدته، آمال الخالد (أم زكي)، إنه تعرّض للضرب على رأسه من قبل أحد المشرفين عليه ومُنذ ذلك الوقت أصيب بالصرع. محمد لديه دواء يُساعده في تخطي الحالات التي تصيبه نتيجة مرضه. ومحمد، الذي لم يتعلم شيئاً في الدار، يعمل لكي يشتري الدواء، ويأكل، ليس أكثر، تقول والدته أيضاً.

يعمل محمد في منطقة اسمها التربيعة، وهي منطقة صناعية فيها كثير من محلات المفروشات وورش النجارة. يقول صديقه وجاره هاني الحسين: "محمد يكسب قوت يومه بالعمل كعتال، هو فقير جداً وخلوق جداً، الناس تُحبه فهو شخص مرح بالرغم من كل المعاناة التي يعيشها".

لم يتمكن محمد الباي يوماً من الدخول إلى المدرسة، ولم يستفد من تواجده في دار الأيتام حاله حال كثيرين. لا يعرف القراءة ولا الكتابة، جُل ما يُمكنه فعله هو الاستفادة من بنية هزيلة أصلا كي يتمكن من العيش.

يروي الدكتور يحيى الحسن، عن محمد: "أقمنا أيام الثورة مبادرة لمحو الأمية، وطلبت منه الحضور ولكنه لم يأت. كان يُريد أن يُشارك في التظاهرات. حين خفّت حدتها، عاد إلي وسألني متى سنُجري دورة ثانية فهو يريد أن يتعلّم".

في الساحة، الجميع يعرفه. كان يجول مبتسما بين الخيم أيام الاحتجاجات الأولى في 17 أكتوبر 2019. هتف لإسقاط النظام برمته. الحسن، الذي كان ناشطاً وقتها، يقول: "كان محمد يهتف للتغيير. لم يستثن أحداً لا حريري ولا ميقاتي ولا حزب الله ولا غيرهم. لم يكن مدفوعاً إلا من وجعه. وجعه الذي تسبب به هذا النظام وحده، وليس أي أحد آخر".

ومحمد، الحاقد على النظام، لم يسلم حتى من أقرب الناس إليه، فبعض من أخوته الشباب كما يروي جيرانهم، الذين يعتريهم الخوف من ردة فعلهم، " ذاع صيتهم في المنطقة بأنهم زعران. هم أيضاً لم يحصلوا على فرصة عادلة، لا تعليم ولا تربية، وبالتالي ما وصلوا إليه أيضاً هو نتيجة وليس سبباً"، هذا أيضاً ما يقوله الحسن في معرض حديثه عن محمد: "هو غاضب، ماذا يريدونه أن يفعل، يحمل يافطة؟ هؤلاء شباب ليس لديهم ما يخسرونه. السلطة تحرمهم من كُل شيء ثم تقول لهم ممنوع عليكم أن تُعبروا عن غضبكم".

أثناء التحقيق معه، اعترف محمد بكُل شيء. سأله المحققون إن كان حمل مولوتوف أثناء الاحتجاجات فرد إيجاباً. أكمل المحققون الأسئلة، ليتبيّن أن هناك من أعطى محمد 20 ألف ليرة لبنانية أي ما يُعادل نحو 2 دولار أميركي، وطلب منه رميهم تجاه السرايا. لكنه لم يرمهم بل أعطاهم لآخرين ليقوموا بالمهمة. سأله المحقق لماذا لم ترمهم أنت، فرد عليه "ما إلي قلب"، سأله مُجدداً للمحقق، لماذا لم تتلفهم طالما أنك لا تريد أن ترميهم، فقال له: "من أعطاني المال كان يراقبني، وأنا لا أريد أن أخسر الـ20 ألف التي حصلت عليها". أيضاً سأله المحقق، ماذا فعلت بالباب الحديد الذي أخذته من السرايا، فقال له: "بعته حديد".

اتصل محمد بعد انتهاء التحقيق معه بوالدته. تقول: "كان يبكي، قال لي إنه مضى على أوراق لكنه لا يعرف ما هي، فهو لا يُجيد القراءة. كان يبكي ويقول إذا سجنوني يا أمي ادع لي أن لا يرمونني في سجن رومية. فليأخذوني إلى سجن القبة لا أريد أن أكون بعيداً". والقبة هي منطقة موجودة في طرابلس، المدينة التي لا يعرف محمد غيرها.

يخضع محمد يوم الاثنين المقبل لجلسة استجواب ثانية بعد أن أجلت الجلسة التي كانت مقررة أمس الخميس، بسبب عدم قدرة المحامي المنتدب من قبل نقابة المحامين للدفاع عنه، من حضور جلسة الاستجواب.

وتقول الباحثة في منظمة العفو الدولية ديالا حيدر إن "ما يحصل مخالفة واضحة لأصول المحاكمات الجزائية. المحكمة العسكرية تقوم بالكثير من المخالفات ونحن طالبنا ونطالب دائماً بوقف محاكمة المدنيين في محكمة عسكرية لأن هذا أمر غير قانوني ومرفوض". 

لمحمد 10 أشقاء ذكور، و2 إناث، توفي واحد منهم في إشكال. تقول أم زكي: "لدي 3 أبناء سُجنوا ظلماً". ولكن أحد هؤلاء الأبناء الذي تقول عنه والدته إنه مظلوم، اعتُقل بجرم السرقة، ترد الوالدة: "نعم سرق لأنه يريد أن يطعم أولاده. ماذا يريدونه أن يفعل. لم يتركوا لنا أي شيء لنفعله. نعيش في بؤس وفقر ولا أحد يسأل عنا. دولتنا لا تعترف بنا". 

وأم زكي كانت تعمل مع أبو طلال المسحراتي. كانت تضيف القهوة ولكنها متوقفة عن العمل منذ بدء جائحة كورونا. تقول: "أريد أن أوصل له الدواء ولكن لا قدرة لي على الوصول إلى بيروت، وقلت ذلك للقاضي، وطلبت منه أن يتحدث مع طبيب محمد ليتأكد. ابني ليس لديه الدواء في حال أصابته نوبة المرض". 

أم زكي ليست غير قادرة على الوصول إلى بيروت، فحسب؛ هي بحاجة لوصفة حكيم كي تستطيع الحصول على الدواء أولا، من ثم تأمين ثمنه، ومن ثم التفكير بكيفية توصيله. هكذا تُلخص الحالة. 

كانت تسأل ابنها محمد لماذا ينزل إلى الثورة، يُجيبها: "ماما أريد أن أؤمن دوائي". تضيف: "ابني محمد مُسالم. لا يحرق ولا يضرب. كان يركض وراء الثوار ليساعدهم، إذا وقع أحدهم أو تعرض للضرب أو اختنق نتيجة الغاز. نزل إلى الشارع كي يُعبر عن غضبه وعن يأسه". 

لا يعرف الحسن عن اعترافات محمد في التحقيق معه، يقول: "أزيل باب السراي، حسنا نأتيهم بآخر، ليست نهاية الدنيا. ماذا يريدون أيضاً؟ ماذا ينتظرون من هؤلاء الشباب؟ حُرموا من التعليم من الطبابة من كُل شيء، وما يقومون به اليوم هو بسبب نظام يحاول أن يحاكمهم على ارتكاباته وليست ارتكاباتهم. بالأمس استخدموا غيرهم في رسائلهم الإقليمية في خلال معارك في باب التبانة وجبل محسن. وها هم زعماء تلك الحرب يتباهون، فيما من استُغِلّوا صاروا في السجن". 

حصلت الاحتجاجات التي تخللها إحراق مبنى بلدية طرابلس وتحطيم مدخل السرايا يوم الخميس في 28 يناير الماضي. اليوم التالي كان محمد يقف في ساحة النور ليهتف ضد النظام ورموزه. هتف كثيراً ضد رئيس الجمهورية، ومن ضمن ما استند عليه القاضي في حكمه كان "تحقير رئيس الجمهورية". 

يوم السبت، أي بعد يومين من الاحتجاجات العنيفة، كان محمد يقول: "العسكر يضربون الأطفال من دون رحمة وكأنهم الأعداء"، يُضيف: "الخطأ ليس من الشعب بل من السلطة التي لم تعرف أن تتصرف. الشعب ليس كافراً ولكن الجوع كفّره. كُل شاب من طرابلس رأسه مرفوع ولكن قلبه موجوع". 

كان محمد، قبل الاحتجاجات الأخيرة، قد أصيب برصاص مطاطي أطلقه الأمن باتجاه المحتجين قبل أشهر، فيما جزم وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي في مقابلة تلفزيونية بأنه لم يحصل أي استخدام للرصاص المطاطي بحق المتظاهرين. 

محمد الباي، شاب وُلد في مدينة مهمشة، في حي أكثر من هامشي، في عائلة فككها الفُقر، يُحاكم اليوم بتهمة الإرهاب. محمد المحبوب من كل من يعرفه، يُحاكم على ما اقترفه بسبب غياب السلطة عن مدينته، يُحاكم بالنتيجة من دون المرور على السبب. هذا مِثال بسيط عما يحصل في لبنان هذه الأيام، ومحمد واحد من كُثر، في مدينة تُعاقب كُل يوم، بطُرق وأساليب مختلفة.