تكرّم «شجرة الذاكرة» ضحايا المجاعة الكبرى التي قضت على ثلث سكان البلاد منذ أكثر من 100 عام، وتجسّد الإخفاقات المجتمعية المستمرة حتى يومنا هذا.
عندما حصل كريستيان توتل على الموافقة لبناء أول نصبٍ تذكاري عن أسوأ مأساة عاشها لبنان على الإطلاق، قرّر أن يستخدم النصب لسرد قصة ولادة وطن.
كان ذلك في العام 2014 تقريباً، بعد حوالي 100 عام على «المجاعة الكبرى» التي قتلت ثلث سكان لبنان، ودفعت بثلثٍ آخر إلى الهجرة. فقد قضى الجوع والمرض في تلك الفترة على حوالي 150 ألف إلى 300 ألف نسمة من مجموع سكان لبنان، الذين كان يتراوح عددهم حينها بين 415 ألفاً و600 ألف نسمة.
وعلى الرغم من هول هذه الكارثة، حيث سجّلت بيروت وجبل لبنان إحدى أعلى نسب الوفيات للفرد الواحد في الحرب العالمية الأولى، لم ينشىء المسؤولون أيّ نصبٍ تذكاري للضحايا.
ومذّاك، مرّت البلاد بحربٍ أهلية دامت 15 عاماً تصارع فيها المسلمون والمسيحيون مع بعضهم البعض وفيما بينهم، ولم يتم إنشاء أي نصبٍ تذكاري لتلك الكارثة أيضاً، إذ رسمت كلٌ من الأطراف المتحاربة بعد وصولها إلى الحكم في نهاية الصراع الروايات الخاصة بها.
أراد توتل، رئيس قسم التاريخ في الجامعة اليسوعية في بيروت، ولو لمرّة واحدة فقط، (تحقيق) قصة مصالحة. فأصرّ على أن يكون النصب التذكاري عبارة عن شجرة زيتون، لأنّ الأخيرة «تنمو في المناطق المسلمة والمسيحية على حدٍ سواء».
تمّ اختيار الخط الفاصل بين غرب بيروت المسلم وشرق بيروت المسيحي في حقبة الحرب الأهلية كموقعٍ لنصب «شجرة الذاكرة»، ليكون «نقطة حربٍ، ولكن أيضاً نقطة التقاء». أوراق النصب النحاسية هي كلمات عربية مأخوذة من قصائد لأهم الكتّاب والشعراء في عصر المجاعة، مثل توفيق يوسف عواد وجبران خليل جبران، وهم عمالقة تحترمهم جميع شرائح المجتمع اللبناني.
نظراً إلى هذه الرمزية الكبيرة، كان من المفترض أن تسرد «شجرة الذاكرة» رواية مجموعاتٍ متباينة ضحّت بحياتها ليولد الوطن، ولكن إذ بها تحكي حكاية بلدٍ وصل إلى الحضيض. فبعد مرور ثلاث سنوات على وضع النصب في ساحة صغيرة بجانب أشجار صنوبر، تمت تغطيته بقماش أبيض قذر مزّقته مع مرور الوقت أوراق الشجرة النحاسية. لم يفتتح النصب أيٌ من زعماء البلد، بسبب الجمود السياسي الدائم والخلافات حول تفاصيل الافتتاح الرسمي من راعي الاحتفال، إلى موعده، إلى كيفية الافتتاح.
ويقول توتل: «كان عليّ أخذ الموافقة من الجميع : رئيس البلدية، المحافظ، رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء. وكانت هناك حساسيات حول ما إذا كان هناك من أيّ شخص مستبعد أو مستهدف»، مضيفاً: «تلقيت مكالمات مفادها: 'ادعُ فلان، لا تدعو فلان'. كانوا يحاولون تسجيل نقاط سياسية».
سياسة حكام لبنان الاعتباطية الانتهازية هذه هي نفسها التي أغرقت البلاد اليوم في أزمة اجتماعية اقتصادية متدهورة تدفع الناس مرة أخرى إلى الجوع.
لذلك، يفضّل توتل أن يبقى النصب حالياً بعيداً عن الأضواء.
«تخيّل أن يقوم رئيس الجمهورية بافتتاح نصب تذكاري عن المجاعة، فيما يقف الشعب على شفير مجاعة جديدة. سيقوم المتظاهرون بتدميره في اليوم التالي. لقد قبع ضحايا المجاعة في طيّ النسيان لأكثر من قرنٍ من الزمن. يمكنهم الانتظار بضع سنوات أخرى ريثما يهدأ الوضع».
تمرّ كتب التاريخ المعتمدة في المنهج اللبناني على المجاعة، ومعاناة الحرب الأهلية مرور الكرام. الروايات الرسمية تصف هذه الأحداث بالمآسي، أو بنتيجة «حروب الآخرين»، ويُمجَّد قتلاها على أنّهم شهداء في سبيل الله أو الوطن، بدلاً من الاعتراف بأنهم ضحايا الظلم.
والتاريخ يعيد نفسه اليوم: فقد اعتبر المسؤولون اللبنانيون ضحايا انفجار مرفأ بيروت شهداء، ومنحوهم الأوسمة العسكرية التي تُمنح لمن يستشهد في المعارك ، متناسين أنّ سنوات الإهمال الإجرامي هي السبب في مقتلهم.
فإن نظرنا إلى هذه المآسي المتكررة من زاويةٍ مختلفة، يتبيّن أنها جميعها مظالم كبرى يتسبب بها الكبار ويعاني منها الصغار، في ظلّ انعدام دائم للمحاسبة. أوجه التشابه بين الانهيار المتعمّد للبنان اليوم ومجاعته منذ أكثر من قرن ليست بقليلة. فسوء الإدارة والفساد المستشري، وطمع كبار رجال الأعمال والسياسة، والتي كبّدت لبنان خسائر بشرية لا تحصى في ذلك الحين، لا تزال مستمرة.
وعلى الرغم من غياب أي نصبٍ تذكاري رسمي يقدّم سرداً نقداً لتاريخ البلاد المأساوي، يمكن التماس هذا التاريخ في نصبٍ غير رسمي، في قريةٍ قديمة دمّرها مرور الزمن، ولكن لم تمسّها يد الإنسان.
تقع بلدة بجرّين في قضاء جبيل، وهي على بُعد حوالي 40 كم شمالي بيروت، على سفح جبلٍ أخضر يطلّ على البحر المتوسط. تتوزع منازلها الحجرية المتداعية بين الصخور، مشقّقة مسنّنة وكأنها من أحفوريات الأرض نفسها. على جانبي القرية، تنخفض الوديان، وتعلو نحو جبلٍ مكشوف تتناثر على قمته بيوت بيضاء: قرية حصارات. وفي الشمال الغربي، على تلة خضراء، تقع بلدة حبالين.
تتوسّط قرية بجرّين شجرة كبيرة تتمايل أوراقها في الهواء، تلقي بظلالها على مساحة كان يحتلها منزلٌ في السابق. لا تزال الأبواب والنوافذ الحجرية صامدة، بعضها من دون الجدران التي حملتها حتى. أمّا الصخور الرمادية، فقد تحوّلت إلى برتقالية صفراء بفعل الإشنيات التي غطّتها.
لم تكن بجرّين متصلة بأيٍ من البلدات المجاورة بطريقٍ فعلي، وما زالت على هذا الحال اليوم، ممّا قد يفسّر لغز كونها القرية اللبنانية الوحيدة من عصر المجاعة التي لا تزال خالية من أي بناءٍ حديث. وعلى الرغم من أهمية ذلك، لم تُبذل أي جهود رسمية للحفاظ على القرية، وبقيت قصتها غير معروفة.
وفق مجموعةٍ صغيرة من المتنزهين الذين زاروا القرية مؤخراً، فإنّ إحدى الروايات تقول إنّ سكانها هربوا من المجاعة بقواربٍ في الليل ولكنهم ماتوا غرقاً، فيما تقول رواية أخرى إنهم ذهبوا إلى الولايات المتحدة أو البرازيل ولم يعودوا.
أمّا الوثيقة الصادرة عن الكنيسة المارونية عن تعداد السكان الذي أقيم عام 1932، فجاء تقييمها للقرية أكثر قساوةً، إذ تقول الوثيقة: «مات سكانها أثناء الحرب. وليس فيها شيء يُذكر».
حتى الآن، لم تكشف لا الوثائق ولا الروايات عمّا حدث بالضبط في لحظات بجرّين الأخيرة. لكنّ السجلات التي تم الحصول عليها من الكنيسة، والتي يعود تاريخها إلى أكثر من 150 عاماً، تسمح بتكوين فكرة عن قصة القرية، ووضعها في السياق الأوسع للتغيّرات الهائلة التي كانت تجتاح الأراضي التي أصبحت فيما بعد لبنان.
قيل إنّ بجرّين أرض زراعية تابعة لآل نعمة من غرفين. وتقول وثيقة تابعة لتعدادٍ للكنيسة المارونية عام 1864 إن العائلة كانت في الأصل من بلدة بيت مري الجبلية التي تقع على بُعد حوالي 48 كم جنوبي بجرّين. ويشير تعدادٌ لاحق إلى أنهم كانوا من لحفد الجبلية، التي تقع على بعد 14 كم غربي بجرّين.
وظّف آل نعمة الأثرياء أشخاصاً من قرى حبالين، وحصرايل، وحصارات، المجاورة للعمل في أراضيهم في بجرّين، التي بلغ عدد سكانها 45 نسمة في عام 1884، وفقاً لتعدادٍ آخر للكنيسة. وكانت الكنيسة المارونية تجري عمليات المسح هذه لتقييم حالة الكنائس وسكان المناطق التابعين للكنيسة. ووجد مبعوث الكنيسة الذي زار بجرّين في عام 1884 أنّ 21 فقط من سكانها – أي أقل من نصفهم – قد أدّوا واجباتهم الدينية في الاعتراف، وأنّ 9 أشخاص دفعوا العشور، كما وجد المسح أنّ ثمانية من السكان متزوجين.
ولم يكن المبعوث راضياً عن درجة تديُّن أهل القرية، فبحسب ما كتب، فإنّ الكثيرين منهم لم يحتفلوا بعيد الفصح، ولا اعترفوا، ولا ذهبوا إلى القداس، «حتى أنّ البعض منهم لا يذهب إلى القداس على الإطلاق». وعلاوةً على ذلك، كان الموتى من أهل البلدة يُدفنون في مقبرة مجاورة للكنيسة «لا يُعرف إذا قد تمّ تكريسها». وقد أنفق مختار القرية، سركيس طنوس ديب، ما يقارب 80? من دخل الكنيسة على ترميم كنيسة القرية القديمة.
ومع ذلك، ظلت متهدمة ومن دون تبليط، ولم يكن لها إلّا نافذة واحدة من دون إطار. وكانت تحوي بعض الأواني اللازمة لخدمة القداس، ككوبٍ واحد فقط من الفضة، وشمعتين نحاسيّتين، وزيٍ واحد قديم للكاهن. ووجد المبعوث أن ديب لم يحتفظ بسجلات النفقات، ولدى سؤاله عن ذلك، أجاب بأنه لا يعرف القراءة، ولا أحد في البلدة يعرف القراءة أو الكتابة، مضيفاً بأنه يحتفظ بالمال في حقيبة خاصة ويحسبه يدوياً - وربما كان هذا عذراً ذكياً للتستر على المخالفات - ولكن على الأرجح كانت هذه هي الحقيقة في قريةٍ يسكنها فلاحون.
وكان يُقاس حجم بجرّين من حيث ناتجها الزراعي، وليس من حيث مساحتها الفعلية، فقد كانت البلدة أرضاً غنية بالمحاصيل، من قمح وزيتون وتبغ، وتوت لإطعام ديدان القز التي تنتج الحرير للتصدير، وفقاً للمؤرخ بول زغيب، من بلدة عمشيت القريبة، والذي درس تاريخ قضاء جبيل بالتفصيل. لا تزال الغرفة المظلمة الشبيهة بالكهف، والتي من المرجح أنها كانت تستخدم لتربية دودة القز قائمةً في بجرّين، ويتدفق شعاعٌ من الضوء إليها من خلال فتحة في السقف جرّاء انهياره. ولا يزال هناك أيضاً كهف آخر، من المرجح أنه كان يُستخدم لتخزين الحبوب، وتم تنعيم جدرانه الحجرية الخشنة بالجص لمنع دخول الحشرات.
كان سكان بجرّين يعيشون في منازل حجرية بسيطة، في جدرانها فجوات كانت تُستخدم لتخزين الأواني والفرش. لم تكن هناك غرف نوم، فقد كانت الوسائد والفرش تُزال من أرض المنزل خلال النهار. وعندما يتزوج أحد أفراد الأسرة، كان يُبنى جدار فاصل في وسط المنزل لإعطائه الخصوصية.
وكان السكان يأكلون كميات كبيرة من الخضروات والزيتون وزيت الزيتون والخبز والقمح، والبرغل ودبس الخروب، في حين كانت الحلويات السكرية واللحوم تُحفظ للمناسبات، كعيد الفصح أو حفلات الزفاف. يقول زغيب: «كانت الحياة بشكلٍ عام صعبة للغاية بالنسبة للغالبية العظمى من الناس في ذلك الوقت؛ لا يمكن الحديث عن عصرٍ ذهبي»، فهم «كانوا يعملون ليعيشوا، فيما كان الأثرياء، من تجار ومصدرين وبائعين، يزدادون ثراءً».
خلال حكم الإمبراطورية العثمانية الذي دام 400 عام، انتقل جبل لبنان بين عامَي 1516 و1918 من الزراعة الكفافية إلى التجارة الإقليمية، قبل أن يتم دمجه في الرأسمالية المُعولمة. وبحلول القرن التاسع عشر، كانت البلاد تنتج كمية كبيرة من المحاصيل المدرّة للدخل كالتبغ والفواكه والبقوليات المختلفة، ولكنّ أكبر تجاراتها كان الحرير. فقد كانت أشجار التوت تُزرع لأوراقها، وهو الشيء الوحيد الذي تأكله دودة القز، وكانت المواد التي تنتجها تُنسج في المصانع المحلية قبل إرسالها إلى أوروبا. وبحلول عام 1880، شكّلت صادرات الحرير 50? من إجمالي الإيرادات في جبل لبنان، بحسب ميلاني تانيليان في كتابها «حرب المجاعة: الحياة اليومية في زمن الحرب في بيروت وجبل لبنان». وبدلاً من الزراعة للاكتفاء الذاتي، اتّجه الناس بشكلٍ متزايد نحو الزراعة بهدف البيع وكانوا يشترون أغذية منشأُها في مكانٍ آخر.
وكونها على الهامش، كانت بجرّين جزءاً صغيراً من ذلك النظام الدولي.
عندما دخل الحرير الصيني الرخيص الأسواق الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر، وأصبح مفضلاً على الحرير اللبناني، انخفض الطلب على الأخير بأكثر من 50?. وفي الوقت نفسه، كان قطاعَي التجارة والسياحة يشهدان نمواً، ويتحوّلان إلى مصدر محتمل لكسب العيش.
بدأ سكان الجبال بالهجرة نحو المدن، فيما هاجر آخرون نحو الأمريكيتين أو أستراليا. وبحلول عام 1900، أظهر تعداد ماروني أنّ عدد سكان بجرّين كان قد انخفض من 45 إلى 26 نسمة، جميعهم، ما عدا 6 أدّوا واجباتهم الدينية في الاعتراف. كانوا يعيشون في 7 منازل، وكانت 10 أعشار مدفوعة الأجر، وكان هناك 4 متزوجين و7 أطفال.
وفي هذه الوثيقة وردت أسماء بعض عائلات البلدة لأول مرة: عائلة حنجول من حصرايل، وعائلة إبراهيم فرنسيس من حبالين. وكتب المبعوث أن كاهن بجرّين يوسف سعادة، من بلدة حصارات، «نادراً ما يقيم القداديس» في رعيته.
كانت القرية الصغيرة قد بدأت بالتراجع حتى قبل بداية الحرب العالمية الأولى. عندما بدأت الحرب، انضم العثمانيون إلى ألمانيا. ورداً على ذلك، أعلنت إنجلترا وفرنسا وروسيا حصاراً بحرياً على الإمبراطورية العثمانية، وأغلقت سواحل الأراضي الواقعة في شرق البحر الأبيض المتوسط، بما فيها بيروت وجبل لبنان.
انهار اقتصاد لبنان الذي يعتمد بشكلٍ أساسي على التصدير، ومُنعت التحويلات المالية من عشرات الآلاف من اللبنانيين في الخارج – والتي كانت مصدر دخلٍ أساسي حتى في ذلك الوقت – إذ أغلق العثمانيون البنوك الأجنبية، ومنعوا العديد من الناس من الحصول على أموالهم، ولكن حتى تلك الأموال التي استطاعوا الحصول عليها كانت تفقد معظم قيمتها في سوق الصرف مع انخفاض قيمة العملة.
بعدها، بدأ العثمانيون في الاستيلاء على الحبوب والحيوانات الزراعية تحت حجة المجهود الحربي، وأقرّوا التجنيد الإجباري في الجيش العثماني، خاصة على الفلاحين في الأرياف، إذ كان الأثرياء يدفعون الرشاوى للتخلص من التجنيد الإجباري. وكانت النتيجة أن تُركت الأراضي الزراعية من دون زراعة، والمحاصيل من دون حصاد.
ثم أتت موجات الحر والشتاء الجاف في العام 1915 لتزيد الطين بلّة على المحاصيل، ولحقتها أسرابٌ متتالية من الجراد كتب شهود عيان أنها حجبت الشمس من شدة كثافتها، لتقضي على ما تبقى. وسرعان ما أصبح سعر رغيف الخبز الواحد يساوي، أو يتجاوز، الأجر اليومي للعمال، فبدأ الناس يتضوّرون جوعاً.
وقد اكتشف العلماء الذين درسوا تاريخ هذه الفترة حقيقة مزعجة: كان هناك على الأرجح ما يكفي من الحبوب في المنطقة لإطعام جميع السكان، ولكنها لم تصل إلى حيث يجب.
فقد كان جمال باشا، قائد فيلق الجيش الرابع العثماني في سوريا الكبرى، يتّبع سياسة عدم التدخل، ففشل في حلّ مشكلة المجاعة في بدايتها في عامي 1914 و1915. ثم قام بتوزيع امتيازات القمح على الأعيان المحليين والتجار، وكلّفهم بتزويد الشعب بالحبوب، وطلب منهم بيعها بالسعر الرسمي، ولكنّ الأخيرين خزّنوا السلع لبيعها لاحقاً بأسعارٍ أعلى. وكان صغار الموزّعين يمزجون القمح مع التراب والنشارة والرمل لزيادة وزنه، فأصبح الخبز يعفّن في غضون يومين بسبب نوعيته الرديئة، كما يروي البعض.
ازدهرت السوق السوداء لكل السلع، من القمح، إلى السكّر، إلى الأدوية، وعمّ الفساد في عمليات بيع وشراء السلع الأساسية. مات الكثيرون في بيروت من الجوع، ليس بسبب عدم وجود الطعام، بل لأنهم لم يتمكنوا من شرائه. ماتوا من الأمراض، ليس لأنها كانت غير قابلة للشفاء، بل لأنهم لم يتمكنوا من الحصول على الدواء. وبسبب ضعفهم الجسدي، بدأت أمراض التيفوس، والكوليرا، والملاريا، والحمى الصفراء، تتفشى، وعلا أنينهم في الشوارع الصامتة حيث تناثرت الجثث الهزيلة.
وفي النهاية، انخفض عدد سكان بيروت من حوالي 150 ألف نسمة ما قبل الحرب إلى النصف تقريباً.
وكان الوضع أسوأ بكثير في جبل لبنان. فلم يصل قرى الجبل إلّا القلة القليلة من الحبوب، نتيجة تخزينها في العاصمة، والقوانين العثمانية البيزنطية التي حالت دون حركة البضائع. حتى الطبقة البرجوازية عانت في جبل لبنان.
أخبر بعض الأشخاص الذين عايشوا تلك الحقبة، (أو أقاربهم)، المؤرّخ زغيب، أصيل عمشيت، التي تبعد بضع كيلومترات فقط عن بجرّين، أنّ السكان كانوا يبيعون أراضٍ شاسعة ومجوهرات وقوارب مقابل بضعة أكياس ثمينة من الطحين. هرب الكهنة من أبرشياتهم، وتهجّر سكان الجبال الجائعين من قرية إلى قرية متجهين نحو المدن، حاملين وناشرين الأمراض. وفقدت معظم القرى حوالي ثلث إلى ثلثي سكانها، حتى إنّ بعض البلدات خلت بأكملها.
كان العيش في بجرّين في ذلك الوقت صعباً، فبالإضافة إلى تلف المحاصيل، اضطر سكانها أيضاً إلى مواجهة الأمراض، والتي كان انتشارها سهلاً في الآبار التي تخزّن فيها مياه الأمطار، المصدر الوحيد لمياه الشرب آنذاك.
لا تزال قصة خلوّ القرية غير واضحة. فعلى الرغم من أنّ البحر كان ليكون خياراً مغرياً للهروب، إلّا أنّ ذلك كان مستحيلاً خلال الحرب بسبب الحصار البحري الشامل.
لم يكن أمام السكان إذاً إلّا النزوح نحو المدن الكبرى، علماً أنّ العديد منهم لم يفعل ذلك إلّا بعد انتهاء الحرب. وكانت مدينة جونيه الساحلية، حوالي 32 كيلومتر جنوبي بجرّين، الخيار الأقرب، ولكنهم كانوا يتنافسون مع آلاف الجياع النازحين من القرى الجبلية. كانت حظوظهم أعلى إن سلكوا الطريق الأطول والأخطر شمالاً نحو طرابلس، التي لم تكن تابعة حينها لإمارة بيروت وجبل لبنان وبقيت بمنأى عن المجاعة إلى حدّ معيّن.
وكتبت تانيليان: «حوّلت الحرب الأسرة من كيان السلامة والأمن إلى مكانٍ للتنافس على الغذاء، فحرم الأخ الخبز لأخيه، وأجبر الآباء والأمهات على هجر أطفالهم»، مضيفةً أنه «لا شك أنّ الحرمان قطع روابط الثقة الوثيقة في الأسر، وبالتالي في المجتمعات».
انتهت الحرب في عام 1918. وفي عام 1932، وصل مبعوثٌ كنسي إلى بجرّين، فكتب عندما وجدها مهجورة: «مات سكانها أثناء الحرب. وليس فيها شيء يذكر».
اليوم، عادت كلمة الجوع على لسان اللبنانيين. يتحدث الناس عن الحرمان علناً على وسائل الإعلام، أكانوا متظاهرين يقطعون الطرق، أو خبراء يحذّرون من أن فئات كبيرة من الشعب قد تواجه نقصاً في الغذاء.
خلال الاحتجاجات الأخيرة، رسم أحدهم إحدى الكتابات الجدارية (غرافيتي) في بيروت تقول: «لا تخلّي عرص شبعان يقلّك اصبر على الجوع».
ومع أنّ بعض العناوين الصحفية والاعلامية تتاجر في التهويل، إلّا أن أوجه الشبه بين الوضع في لبنان اليوم والمجاعة الكبرى ليست بقليلة.
فاقتصاد البلاد، الذي يعتمد بشكلٍ مفرط على استيراد كل السلع، من الغذاء إلى الوقود، قد انهار، والعملة فقدت معظم قيمتها. والقطاع الزراعي غير مهيأ لتلبية الطلب المتزايد، والتجار الذين يحتكرون قطاعات الأغذية والأدوية وغيرها يخزّنون السلع ويفاقمون بذلك مشكلة النقص. والجهود العشوائية التي بذلها المسؤولون لمكافحة جشع التجار لم يكن لها تأثير يذكر. السوق السوداء للحاجات الأساسية تزدهر، والناس يناشدون اللبنانيين في الخارج للمساعدة.
ولكن في نهاية المطاف، هناك فرقٌ واحدٌ مهمٌ بين الآن وحقبة 1914-1918. فما كان يمكن أن يُعزى عندها إلى الاحتلال والحرب، وإلى الطبيعة وغضب الله، يُفرض اليوم على اللبنانيين من قبل حكّامهم.
لا يوجد حصار، بحري أو غير ذلك. وعلى الرغم من خطر الحرب الدائم، لا تتم مصادرة أي طعام، أو ممتلكات، أو أشخاص. الحقيقة أنّ لبنان هو ضحية نظام سياسي مفترس جعل مجموعةً صغيرة من المسؤولين وزبائنهم فاحِشي الثراء، ولا يزالون يعملون للحفاظ على مصالحهم على حساب الشعب.
على الرغم من كل عللهم، إلا أنّ العثمانيين بذلوا جهوداً - ولو باءت بالفشل - لحلّ مشكلة المجاعة التي تسبّبوا بها. أما حكام لبنان اليوم، فلم يبذلوا أيّ جهودٍ لوقف الأزمة المتصاعدة، بل يختارون ممارسة سياسة عدم الفعل.
لذلك، ليست بجرّين محطة للتذكير بضرورة التأمل في ماضي لبنان المضطرب فحسب. وهي كغيرها من النصب التذكارية، هي بمثابة تحذير من المستقبل المجهول.
فهي تذكّرنا بأن الذين ماتوا في المجاعة لم يستشهدوا من أجل لبنان، ولا حتى من أجل الكنيسة أو الدِّين - وقد رأينا أنّ العديد منهم لم يكونوا متديّنين أصلاً.
ماتوا من الجوع. عاشوا حياة صعبة وماتوا موتاً مشيناً ومهيناً. فرّوا من لبنان إذا استطاعوا، وكاليوم، معظمهم لم يبقَ إلّا لأنّ لا خيار آخر أمامه - على الرغم من مخاطر هذا البقاء.
قالها جبران خليل جبران في قصيدته «مات أهلي»، التي كتبها أثناء المجاعة ولضحاياها. وقد عُلّقت بعض مقتطفاتها على شجرة الذاكرة.
"ولكن لم يمت أهلي متمردين،
ولا هلكوا محاربين،
ولا زعزع الزلزال بلادهم،
فانقرضوا مستسلمين".
(*) للاطلاع على المقال بالنسخة الأصلية اضغط هنا