Advertise here

محكمة الجنايات الدوليّة تنتصر لفلسطين.. برغم معارضة أميركا

12 شباط 2021 18:25:33 - آخر تحديث: 20 تشرين الأول 2022 12:16:21

يشكّل قرار محكمة الجنايات الدولية الدائمة إخضاع كامل الأراضي الفلسطينية لصلاحياتها انتصاراً للعدالة الدولية، ويُعيد بعض الأمل للتعاون الدولي المشترك، بصرف النظر عن مدى تأثير هذا القرار في مسار الحوادث في الأراضي العربية المحتلة، لأن الغطرسة الإسرائيلية ستتواصل، والجنوح العدواني على غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية قد لا يتوقف، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي صدمه قرار المحكمة تجاوز كل الأصول المتبعة في التعاملات الدولية، عندما وصف المحكمة بأنها مؤسسة سياسية معادية لإسرائيل.

في واقع الحال؛ فإن إسرائيل، وبمساندة من الولايات المتحدة الأميركية، مارست كل أنواع الضغوط لكي تُجهِض التحقيقات التي باشرتها المدعية العامة للمحكمة الدولية فاتو بنسودا عام 2019، وشنَّ الفريقان حملة واسعة على بنسودا وصلت الى حد فرض عقوبات عليها من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وقد اضطرَّت بنسودا لتوقيف التحقيق وإحالة الملف الى الهيئة العامة للمحكمة لحسم موضوع مشروعية التحقيقات بجرائم قادة إسرائيل بعد حرب غزة عام 2014، وهل التحقيق في هذه الجرائم التي وقعت في أراضٍ محتلة من صلاحية المحكمة مكانياً وموضوعياً، أم لا؟ باعتبار أن إسرائيل ليست عضواً في "نظام روما" الذي أنشئت بموجبه المحكمة الدولية عام 2002.

لقرار محكمة الجنايات الدولية الدائمة ارتدادات سياسية وقانونية، ومهما كانت نتائج الأحكام القضائية التي ستصدر عن المحكمة؛ لن تقلِّل من أهمية القرار الذي أصدرته هذه المحكمة في 5 شباط (فبراير) 2021 بأكثرية أصوات أعضائها. فهو من الناحية السياسية ثبَّت واقعة كون الأراضي العربية التي استولت عليها إسرائيل عام 1967 بما فيها القدس الشرقية؛ أراض محتلة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 242، وبالتالي فقوات الاحتلال مسؤولة عن تبعات كل الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين، وكذلك التي تستهدف تشويه المعالم التاريخة والآثار التي تقع ضمن هذه الأراضي. كما أن القرار اعترف بمشروعية تمثيل السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس للشعب الفلسطيني، كونها قبلت شكوى الحكومة الفلسطينة التي انتسبت الى المحكمة عام 2015؛ ضد انتهاكات إسرائيل في قطاع غزة وفي الضفة الغربية وفي القدس الشرقية، بما فيها الجرائم التي تستهدف مصادرة الأراضي، وهذه الأعمال مُحرَّمة دولياً بموجب اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949.

إسرائيل التي هاجمت بقوة قرار محكمة الجنايات الدولية الأخير، تقول إنها ليست مُلزمة باحترام أعمال المحكمة لأنها ليست عضواً فيها. والولايات المتحدة التي انسحبت من عضوية المحكمة بسبب التحقيقات في جرائم الحرب التي وقعت في أفغانستان وطالت جنوداً أميركيين، تقول إن الادعاء بالجرائم الدولية الأربع (جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإرهاب وجرائم الحرب) يجب ألا يحصل إلا بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن، وإن قرارات المحكمة غير مُلزمة سوى للدول الأعضاء في "نظام روما" الذي أُنشئت المحكمة الدولية بموجبه. لكن "نظام روما" ذاته الذي يلحظ قبول الدعوى بطلب من مجلس الأمن؛ يعطي أيضاً الحق للمدعي العام في المحكمة بفتح تحقيق في أي جريمة دولية، بناءً على شكوى من دولة عضو، أو بناءً على معطيات دامغة تؤكد وقوع الجرائم. وقرارات المحكمة مُلزِمة لكل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، من انتسب منها الى المحكمة ومن لم ينتسب.

بنسودا قالت إن المحكمة ستستأنف التحقيقات في جرائم الحرب التي وقعت في غزة مهما كانت جنسية المُرتكبين، وكذلك في الانتهاكات التي  وقعت في الضفة الغربية وفي القدس الشرقية، وبصرف النظر عن موقف المُعترضين على قرار المحكمة، وتحقيقاتها ستشمل طلب الاستماع الى متهمين من القيادات العسكرية الإسرائيلية، لا سيما منهم الذين استهدفوا المدارس التابعة للأمم المتحدة، وكذلك الى أشخاص فلسطينيين مشاركين في النزاع على ما قالت. لكن بنسودا ستُحال الى التقاعد في شهر حزيران (يونيو) المقبل، وهذا الأمر سينعكس سلباً على التحقيقات بطبيعة الحال، أياً كان اسم القاضي الذي سيخلفها في هذا المنصب، باعتبار أن بنسودا على معرفة بكل تفاصيل الملف، وهي صاحبة فكرة التحقيق في هذه الجرائم منذ البداية.

مهما يكُن من أمر؛ فإن قرار محكمة الجنايات الدولية حقق جزءاً أساسياً من أهداف التحقيق الجنائي، لأنه اعترف بعدم خضوع كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة "للسيادة الإسرائيلية"، وبالتالي عدم مشروعية قرارات الضمّ الإسرائيلية، وهذا الموضوع أثار المسؤولين الإسرائيليين الذين يمارسون "تشبيحاً" سياسياً وأمنياً على هذه الأراضي.

والمواقف الحمقاء التي أعلنها نتنياهو ووزير خارجيته غابي أشكينازي ضد المحكمة الدولية، استدعت ردوداً منددة واسعة تؤيد عمل المحكمة، ومنها ما صدر عن هيئة مراقبة حقوق الإنسان الدولية من واشنطن (هيومن رايتس ووتش) وعن عدد كبير من الحكومات وعن مجلس الجامعة العربية. وقد وصف رئيس وزراء فلسطين محمد أشتية قرار المحكمة بأنه انتصار للعدالة الدولية.

لا يمكن معرفة حقيقة الموقف الأميركي الجديد تجاه المحكمة، وهل ستُتابع إدارة الرئيس بايدن ما اعتمدته الإدارة السابقة في ما يتعلَّق بمحاربة المحكمة؟ الموقف السلبي الأميركي، يُشبه الفيتو الذي اتخذته روسيا في مجلس الأمن ضد قرار إحالة جرائم الحرب السورية الى المحكمة؛ وهو لن يُلغي مشروعية أحكامها، ولن يوقف الملاحقات. ومذكرات التوقيف الدولية التي تصدر عن المحكمة مُلزمة التنفيذ لكل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. علماً أن المحكمة تقاضي الأشخاص المرتكبين وليس الحكومات، ومهما كان موقع هؤلاء الأشخاص، فلا حصانة أمام المحكمة لأحد، بما في ذلك لرؤساء الدول.