"التقسيم"؟ مشروع الدولة الجامعة؟ للعاقل منّا أن يختار قبل فوات الأوان

08 شباط 2021 05:49:00 - آخر تحديث: 09 شباط 2021 21:00:09

الذعر، ولا شيء سوى الذعر يحكم علاقة اللبناني بالآخر؛ ذعر المحكوم من الحاكم، ذعر الفقير من الغني، ذعر الأقلوي من الاكثري، ذعر المسيحي من المسلم، ذعر الأعزل من المسلح، وذعر المتعب المسالم من الناهض المتحفز للأدوار الكبرى.

طالما كانت فكرة التقسيم في قعر ذهن اللبنانيين، تخبو وتفيق وفق الظروف ودرجات الذعر وحالما تطأ أرض لبنان -أو فضاءه- أقدام جديدة. إمارة جبل لبنان كانت في بعض محطاتها مشروع استقلال أو انفصال حالما وطأت قدم العثماني مرج دابق، وقبله حكم المماليك. الوجود الفلسطيني اعتُمد لواءً لتحفيز فكرة التقسيم عندما وطأت أرض اللاجئ الفلسطيني الحافية المشردة ملزمةً أرض لبنان. الدخول السوري أوقد الفكرة في ذهن من استقدمه عندما تجاوز حدود المرتجى منه بالقضاء على المعلم كمال جنبلاط والحركة الوطنية والثورة الفلسطينية وطمح للتمدد شمال ثكنة الفياضية. الاحتلال الاسرائيلي أعاد إنعاش الفكرة عندما استعصى السيطرة على كامل الكيان. وفي كل مرة  كانت تُستولد الفكرة مجدداً بجغرافيا مختلفة ولاعبين مختلفين وإن كانوا من نفس الجذر الفكري.

المجموعات اللبنانية بمعظمها جشعة، متهورة، ومغامرة. إما تقبض على الكيان والنظام برمته اذا كانت قوية وحاكمة، أو تنفصل عنه إذا استعصى عليها حكمه.

الجغرافيا اللبنانية لينة، مطاطة ومطواعة للأهواء والمصالح. هناك لبنانيون أرادوا توطين اليهود في لبنان لضمان توازن الأعداد، وعندما رفض الانتداب الفرنسي ذلك أرادوا إلحاق بعض الجنوب بوعد بلفور.

ولبنانيون أيضاً أرادوا ضم طرابلس ومسلميها إلى سوريا وإبقاء المسيحيين فيها مواطنين لدولة لبنان وإعطاء جبل عامل الحكم الذاتي لإزاحة عبء العدد. لبنانيون مسلمون (سنة ودروز وشيعة) أرادوا  بعد تفكك السلطنة العثمانية   الوحدة العربية لأنها تحقق حلماً، ولكن أيضاً لأنها تحقق غلبة عددية. لبنانيون مسيحيون نخبويون أرادوا الوحدة العربية وبنوا فكرتها لأنها بطابعها العلماني تخلق هوية مشتركة وتزيح عبء الهوية الدينية عنهم، وعندما خبا الطابع العلماني للقومية العربية غادروها غير آسفين. ولبنانيون أيضاً (أرثوذكس وكاثوليك) أرادوا الوحدة السورية لأنها تجمعهم بأبناء عمومتهم في البلاد الشامية وتضاعف نفوذهم وعددهم. ولبنانيون أيضا هم الذين رفضوا ضمّ الأقضية الأربعة إلى لبنان الكبير وعادوا وقبلوا بها على مضض بدوافع الأمن الغذائي وهول المجاعة. وفي كل مرة كانت الإرادات تغلّف بشعارات جذابة، سامية ونبيلة.

اللبنانيون مهرة في التورية؛ اللامركزية، اللامركزية الموسعة، اللامركزية المالية، الفيدرالية، الكونفدرالية، والمضمر واحد: الذعر من الآخر واستحالة العيش معًا في نظام واحد يفترض المساواة والطمأنينة ولا يؤمّنهما.

مرة أخرى يندفع النقاش المحموم حول التقسيم، والدافع هذه المرة قادم جديد هو المشروع الايراني إضافة الى ظواهر تطرف مقلقة يراد نسبها ظلماً لعموم سنّة البلاد.

سوال أول: هل التقسيم أيا كانت تسميته هو خيار مجموعة لبنانية واحدة تستطيع أن تتخذه بمعزل عن الآخرين؟! إذا كان كذلك، فهو استحال انفصالاً جبرياً لا يستطيعه أحد في لبنان، وإذا كان خيارًا جماعيًا فإنضاجه وقبوله يفترِض أن نغرق جميعنا بالوهم أو الوحل.

سوالٌ ثانٍ: على أي أساس سيكون هذا التقسيم المفترض؟! جغرافي، طائفي، مذهبي، ديمغرافي أو سياسي؟ وهذه استحالة أخرى حتى ولو استعان دعاة التقسيم بأخبث خرائط برنارد لويس ومارك سايكس وفرنسوا جورج بيكو، فلن يستطيعوا الوصول إلا إلى خطوط تماس واهية ترسم بالغضب والحقد، ولا تحمى الا بالنار من شعب لم يُعرف عنه شغف السلم عند الخيارات الكبرى.

سؤالٌ ثالث: هل تستطيع المجموعات السياسية المكونة للفيدراليات المنشودة التعايش فيما بينها سلمياً؟ يعني مثلاً، ودون إهانة أو كراهية، هل تستطيع القوات اللبنانية أن تتعايش مع سماحة التيار الوطني الحر في الكيان المستقبلي المفترض؟! تجربة السنوات الماضية لا تشي بهذا الأمر، وهو ما يسميه أمين معلوف وَهْم التجانس المكلف، وهو اختبار لم ينجح في مناطق لبنانية أخرى، وحروب الأخوة عادة لبنانية مقيتة لكنها أصيلة ومستحبة.

سؤالٌ رابع: كيف تتعايش الأقاليم المفترضة إذا ما توزعت أهواؤها وتحالفاتها السياسية شرقاً وغرباً؟ وكيف يحصل الفصل الاقتصادي؟ وكيف تنشأ الدورات الاقتصادية المختلفة التي ستخلق تمايزات اجتماعية واقتصادية بين أقاليم غنية وأقاليم فقيرة؟ وهل من يضمن سلمية العلاقات عند أول حادث حدود او حتى حادث سير، خاصة اذا ما تفككت المؤسسات  الجامعة من جيش وقوى أمن وجامعات ومراكز إنتاج ومساحات مشتركة على ندرتها؟

سؤالٌ خامس: هل الفيدرالية بلفظها السمح تتيح المجال لإقامة دولة مركزية قوية أم تزيد الدولة الحالية ضعفاً؟! وهل سيكون للفيدراليات سياسات متفاهمة أم متناقضة في ظل ندرة الخيارات وتضادها في المنطقة؟

سؤالٌ سادس: في معظم التجارب الفيدرالية اللطيفة، قضايا الدفاع والأمن والعلاقات الخارجية هي من مهمة الحكومة المركزية، فيما باقي قضايا الصحة والتعليم والاقتصاد من مهام الحكومات الفيدرالية. لكن هل خلافنا الفعلي في لبنان هو على التعليم والصحة أم على الدفاع والأمن وسياسة لبنان الخارجية وتحالفاته وقرار الحرب والسلم فيه؟! وما علاقة الحياد بالفيدرالية؟ وهل تنجح تجربة الفيدرالية إذا سلمنا بها في ظل غياب حياد الدولة المركزية؟

سؤالٌ سابع: هل قرار التقسيم أو الفيدرالية ملطفًا قرار بلدي محلي تُلحّ به نخبة تعبّر عن هاجس مجموعة أو مجموعات، أم قرار أكبر وأعلى؟ وإذا كان البعض من الدعاة القدماء والجدد يتنسمون رياح تقسيم في المنطقة وربما يبنون عليها،  فهل نجحت هكذا تجارب عندما فرضت في البلاد القريبة برضوخ الشركاء الآخرين لا بقبولهم، كما في حالة أكراد العراق اليوم مثلاً؟

سؤالٌ ثامن: قانون الانتخاب الحالي كان أحدث محاولات التقسيم السياسي بين اللبنانيين، فهل خفف من حال الاحتقان والتأزم بين المجموعات اللبنانية أم فاقمها؟ وهل مهّد لصياغات مشتركة لمستقبل اللبنانيين أم عمّق الهوة وعطّل ماكينة الدولة وأتلف ما تبقى من نظام؟ وهل أكثر خطورة على بقايا اجتماعنا السياسي من الخطاب السياسي المرادف له؟

النقاش النظري متاهة لا طائل منها، كما لا طائل من نقاش علاقة الهوية بالجغرافيا، كي لا ينفي غياب الهوية الواحدة (وهو واقع) امكانية الجغرافيا. وعلاج الذعر ليس إحراق أنفسنا بل إزالة مبررات الذعر، ولهذا يصدح غبطة البطريرك الراعي ليل نهار بالدعوة إلى الحياد والحث على الإنقاذ، وهو المدرك قبل غيره لما يعتمل في بيئته قبل البيئات الأخرى من نقاش عميق، مذعور، ومغامر حول استحالة العيش مع الآخر في نفس الكيان، وهو يعلم أن الحياد يعيد بناء المشترك في المصالح وفي الجغرافيا.

مصيبة سيد بكركي الذي يستعيد مسار البطاركة الصانعين للأقدار الوطنية المشتركة أنه يعلم آسفاً أن الداء والدواء في بعض رعيته وأن رأس الدولة ورأس الطائفة سياسياً هو من يتأبط ذراع القادم الجديد ويقوده في كل أنحاء الجمهورية بكل الذعر الذي يثيره والانقسامات التي يستولدها.

لم يعد المسيحيون وحدهم مذعورين، بل بات لهم نظراء آخرين، بيئات وأفرادا، لكن الخيار واضح: التقسيم أيا كانت تسميته، أو الاندفاع الى مشروع الدولة الجامعة لاستعادته وترميمه قبل فوات الأوان؟ للعاقل منّا أن يختار.

*ينشر بالتزامن مع صحيفة "النهار"