Advertise here

أسوأ من الاغتيال

05 شباط 2021 19:45:00 - آخر تحديث: 05 شباط 2021 19:48:15

الاغتيال مصطلحٌ يُستعمل لوصف عملية قتل منظّمة ومتعمّدة تستهدف شخصيةً مهمّة ذات تأثيرٍ فكري، أو سياسي، أو عسكري، ويكون مرتكزُ عملية الاغتيال، عادةً، أسباباً عقائديةً، أو سياسيةً، أو اقتصادية، أو انتقامية، وتستهدف شخصاً معيّناً يعتبره منظمو عملية الاغتيال عائقاً لهم في طريق انتشار أوسع لأفكارهم، أو أهدافهم.

عرفت البشرية عمليات الاغتيال منذ القِدم، حيث سُجِّلت أول عملية اغتيال في التاريخ مع قتل قابيل لهابيل (أبناء آدم عليه السلام)، وتوالت بعدها الاغتيالات في العصور القديمة، حيث تضّمن العهد القديم ذكر سبعةٍ منها. وسُجِّل العديد من الاغتيالات في العصور الفرعونية، ومن أشهرها اغتيال الأمير الفرعوني توت عنخ آمون، ومن قبله اغتيال الملك أخناتون.

 وترافق مع انتشار المسيحية، لا سيّما في أوروبا، ظهور حملة اغتيالات واسعة لمن عُرِفوا بعبَدةِ الأوثان، وطبعت حقبة الخلفاء الراشدين عمليات الاغتيال. وكثرت الاغتيالات السياسية حول العالم، والتي طاول العديد منها الملوك ورؤساء الدول.

أمّا في لبنان، فإن عمليات الاغتيال كان لها الحيّز الكبير في حياته السياسية. ولعلّ ما شهدته العائلة الجنبلاطية خير دليلٍ على ذلك.

ومع بداية الحرب اللبنانية في العام 1975، تفاقمت عمليات الاغتيال السياسي، حيث بدأت مع اغتيال المناضل معروف سعد، ثم اغتيال المعلّم كمال جنبلاط. واستمرت آلة القتل السياسي إلى ما بعد انتهاء الحرب الأهلية، ثمّ عادت بشراسة مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومن بعده مجموعة كبيرة من قيادات ثورة الأرز. وترافقت تلك الحقبة مع تنفيذ العدو الصهيوني لسلسلةٍ من الاغتيالات شملت عدداً كبيراً من رموز المقاومة، الفلسطينية منها واللبنانية.

إن الاغتيال السياسي عملية بشعة وجبانة، لا سيّما أنها تبيِّنُ ضعف حجّة منفذ الاغتيال وإفلاسه السياسي، بالإضافة إلى أنها عملية دنيئة بكل المقاييس والأعراف الإنسانية والدينية والأخلاقية، لا سيّما وأنها تعتمد على الغدر، ولا تترك فرصة للضحيّة للدفاع عن نفسها. إنها بلا أدنى شك فعلُ جبنٍ ونذالة، وانعدام أخلاق.

أمّا الأسوأ من الاغتيال بحدِّ ذاته، فهو الفرح بالقتل، والتهليل له، والشماتة بالضحيّة، والفخر بإنجاز التصفية الجسدية. لقد آلمني كثيراً اغتيال خيرة من أبناء بلدي لبنان، أكنتُ متّفقاً معهم بالرأي السياسي أم مختلفاً. وآلمني أكثر بشاعة مشهد الفرح والشماتة الذي رافق الاغتيال، كل اغتيال. وما دفعني لكتابة هذه السطور ما قرأته على صفحات التواصل الاجتماعي على أثر عملية اغتيال الناشط السياسي لقمان سليم.

إن الثقافة الإسلامية بشكلٍ خاص، والدينية التوحيدية بشكلٍ عام قائمة على مبدأ التسامح. وجاء في القرآن الكريم: "إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" (140 آل عمران). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لا تُظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك (رواه الترمذي وحسّنه). ويحكى أن النبي صلى الله عليه وسلّم ذهب لجنازة، فقيل له: إنها ليهودي فقال: "أليست نفساً" (رواه البخاري ومسلم). وجاء في العهد القديم: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِن ذِكْرِ اللَّهِ أُولَ?ئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (الزمر 22)، "لا تشمت بموت أحد. أذكر أنّا بأجمعنا نموت" (سفر يشوع بن سيراخ 8:8)، "لا تفرح بسقوط عدوِّك، ولا يبتهج قلبك إذا عَثَرَ؛ لئلاَّ يرى الربُّ ويسوء ذلك في عينيه، فيرُدَّ عنهُ غضبهُ" (سفر الأمثال 24: 17، 18). وفي العهد الجديد "أحبوا أعداءكُم. باركوا لاعنيكم. أحسِنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الّذين يُسيئُون إليكم ويطردونكم" (إنجيل متى 44:5؛ إنجيل لوقا 6: 27، 28). فلماذا هذا الإسراف في الحقد؟ ولماذا هذه الشماتة المدمرة والمهلكة؟

وقال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبة همام التي يصف بها المتّقين، "ولا يشمت بالمصائب". إن التشفي بالموت ليس من أخلاق العرب، وليس من أخلاق الإسلام، وليس من الإنسانية بشيء.

إن هذا المستوى الذي وصلنا إليه من حقدٍ في النفوس، يدلّ على أنظمة تربوية متهالكة، وعلى سياسة تحريضية مدمّرة، تربي الأجيال الصاعدة على الكراهية، وتعدم القيم الإنسانية، وتؤسِّس لحروب عبثيّة، تهدم ما تبقّى من هذا البلد المقتول، المسروق، المنهوب، المدمَّر. فمتى ستعي الجهات اللبنانية، التي تعيش على التحريض الطائفي والفتنة، أن ّ ما تزرعه سينقلب دماراً على الجميع؟

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".