Advertise here

حجر طرابلس المحروسة

30 كانون الثاني 2021 18:47:41

في عمق المبنى المحترق في بلدية طرابلس، والذي تحوّل إلى كهفٍ أسود، كان هناك "الحجرُ الأبيض"، يضحك لأول الواصلين إليه، ويضحك من "فِرق التلحيم" التي أضرمت النار مؤخراً في ليل التاسع والعشرين من كانون الثاني، العام الواحد والعشرين.

كان "الحجر الأبيض" إرث الأجداد البنّائين. جعلوه في عمق المبنى، وحفظوه بالكلس. حفروا عليه: "طرابلس مدينة العلم والعلماء".

فاجأ الحجر الأبيض عوّاده. رأوه لا يزال يضحك، وهم جُهمٌ مما أصاب مدينتهم في الليل الأسود. 
انتفضَ على النار. وانتفض على الدخان. وانتفضَ على الركام. وكان يبصّهم بعينيه. يضحك لهم، وكأنه في أحسن حال.

كان "تميمة الأجداد" حتى لا يصيب الدهر مدينتهم بعينه العوراء. كان تميمة الأجداد لحفظ المدينة إذا ساءت أحوالها، وعضّ عليها قدرها بفؤوس المجرمين والمعتدين. 

 كان "الحجر الأبيض" يضحك للزائرين يذرفون دموعهم، ويجهشون بالبكاء.  كان يقول لهم: إن "طرابلس المحروسة"، لا تأبه لأقدام اللصوص والمجرمين العتاة.

كان ليل "طرابلس المحروسة" في مبانيها المحترقة، همّه أن يمحو "الحجر الأبيض" من تاريخها. أن يجعلها بلا أمل في الحياة.  

وقف "الحجر الأبيض" يشرح للزائرين أن أجدادهم حسبوها جيداً منذ أن شادوا، قبالة المقهى العثماني، في التل الأعلى، درّتهم، ثم أهدوها الساعة لتحفظ تاريخهم، وتدق دقّاتها الغاضبة حين يجيء اللصوص في غسق الليل ينهبون دارتهم، ويعتدون عليها.

 طرابلس المحروسة، يقول الحجر الأبيض، "مدينة العلم والعلماء" محروسة بكرامتهم، محروسة بكرامة جميع الرسل والأنبياء.

إذا بكت طرابلس، إذا أدمعت، إذا شهقت، هبّ إليها من "وادي الكنائس" ما يردّ عنها الكيد. ما يردّ عنها الظلم، ما يردّ عنها نيران الظالمين العتاة.

قال "الحجر الأبيض" للزائرين إنّ وادي القديسين أجرى دموعه في نهرها. سقى ترابها "رقيّة الذل"، ورقاها من كل صيبة عين، ولدغ أفعى، واعتداء.

لم يحسب أعداؤها أنّ أذى المدينة المحروسة بكرامة شيوخها وقديسيها، سيكون عاراً وشناراً عليهم مدى الحياة.

ما اجتمعت الكرامة والقداسة في مدينة بعد القدس، إلّا لطرابلس المحروسة. لذا وقف الشانئون عليها ليلهم، فبادرهم "الحجر الأبيض". مسّهم بالذل إلى يوم الدِّين.

تعرف "طرابلس المحروسة" ما حاكوا لها من أول القرن. أخذوها عنوة إلى الحرب. جعلوها ساحةً بين الشرق والغرب. جعلوا لها الجبهات. دوَّروها، حوَّروها، ونادوا على قادة المحاور. حاولوا تجريدها. لكنها نهضت من جديد. لا صوت يعلو فوق صوت مآذنها وأجراس كنائسها. كأنها سبحة يومية للصلاة. للسلام.

طرابلس لا تخشى اليوم صعاليك الحروب القريبة والبعيدة، مهما جنّدوا لها من فِرَق النيران، من "فرق التلحيم"، من "فرق الفتيان".

طرابلس لا تحيد عن دورها، قال "الحجر الأبيض" حين راجعه الزائرون. إنها واحةٌ للأمان والإيمان، وعلى أرضها السلام.

جرّب المجرمون جرّها للحروب من أول عهدهم بالحروب، فما انقادت لرغائب الموت، وآثرت السلام.

"الحجر الأبيض" في عمق مدينة السلام، في طرابلس العصية على رهاب القتل والموت في دارة بلديتها، يدعو العابثين بأمنها، أن يُعلوا علمها: إنها كانت ولا زالت المدينة المحروسة، الموقوفة للعلم والعلماء. 

 فليوقفوا إرسال الرسائل. فليوقفوا "فِرق التلحيم والنيران". فليوقفوا "فِرق الفتيان". ألاعيب الحروب القذرة كشفت خبث أياديهم منذ زمانٍ وزمان، وفي غير مكان.


* أستاذ في الجامعة اللبنانية

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".