Advertise here

قراءة نقدية في تاريخ الجمهورية الأولى

26 كانون الثاني 2021 16:30:00 - آخر تحديث: 28 كانون الثاني 2021 11:39:19

يبدو هذا المقال وكأنه خارج السياق الزمني الذي يفترض أن يتم التركيز فيه على ما جرى ويجري في مسار الجمهورية الثانية. ولكن برأيي العودة إلى قراءة نقدية لمسار الجمهورية الأولى، يساعد في فهم التحديات والتداعيات التي أدخلت الجمهورية الحالية بمأزق يعبّر عن عدم القدرة على انتاج حلول لمختلف المشاكل التي تواجه اللبنانيين.

يصنف النظام السياسي في لبنان من بين الانظمة التوافقية أو أنظمة المشاركة، التي تعطي الطوائف أو المجموعات الثقافية او الاثنية حقوقا في التمثيل السياسي يضمنها الدستور والاعراف. وتترافق هذه الحقوق مع نصوص تحدد بدقة آليات اتخاذ القرار في المؤسسات الدستورية، بشكل يمنع طغيان فئة على اخرى كما يمنع تعطل المؤسسات.

يتميز النظام التوافقي أيضاً بأنه "نظام النخبة التي تتمتع بثقافة التسوية والقدرة على تسويقها إن تعقدت لدى جمهور الطوائف أو المجموعات، ويذهب البعض إلى تشبيه دور النخبة في النظام التوافقي، بالدور الذي يلعبه "القفل" في قنطرة العقد، فإذا تداعى القفل، تتداعى معه القنطرة بأكملها، والأمثلة على ذلك كثيرة في الجمهوريتين الاولى والثانية. وتركز النظرية التوافقية منذ عقود على عوامل الاستقرار في هذه الأنظمة، والتي تفترض توازناً ديمغرافياً مقبولاً، وكذلك توازناً اجتماعياً - اقتصادياً يمنع تركز الثروة في أيدي إحدى المجموعات الطائفية أو الثقافية أو بيد قلة من المجموعة ذاتها، كما تفترض الوحدة في وجه التهديدات الخارجية.

غير أن بعض الدول، مثل لوكسمبورغ، اتفقت فيها النخب على آليات متقدمة لضمان الاستقرار، ومنها اعتماد دبلوماسية القمة، أي مأسسة الحوار بين النخب الاساسية وتسويق أي تسوية يتم الاتفاق عليها، وعدم إدخال القضاء والأجهزة الأمنية في لعبة موازين القوى، وترك الحكومة تحكم بمجرد تأليفها وحصولها على ثقة المجلس النيابي.

في المقابل فإن خصوصية هذا النوع من الأنظمة لم تكن حائلاً أمام تكريس مبادئ دستورية تعتمدها الأنظمة والديمقراطيات الأخرى، وهذا ينطبق على لبنان، مثل الفصل بين السلطات الدستورية واستقلالية القضاء واعتبار الشعب مصدر السلطات، كما لم يمنع من تكريس مبادئ وقيم مثل حكم القانون وتحمّل المسؤولية والمحاسبة والشفافية وقيام إدارة عامة تعتمد حيادية الخدمة العامة، كما تعتمد الكفاءة المعيار الأساسي في تولي الوظائف العامة. ولا تخرج الأنظمة التوافقية عن فكرة العقد الاجتماعي وفقاً لمفهوم توماس هوبس وجان لوك، وإن يكن لهذا العقد خصوصيات معيّنة، حيث تحل الطوائف أو المجموعات الثقافية كطرف في هذا العقد بديلاً من المواطن. ولا تسلّم هذه الطوائف كما في التجربة اللبنانية بكافة الصلاحيات للدولة ومؤسساتها مقابل الحماية التي يفترض بالدولة تأمينها سنداً لفكرة العقد الاجتماعي.

وبالعودة إلى التجربة اللبنانية منذ الاستقلال، نرى أن النظام السياسي اللبناني مزج بين بعض مبادئ الديمقراطية التوافقية والنظام البرلماني، وتكرست فيه بعض الأعراف التي حافظت على التنوع في رئاسة مؤسساته الدستورية، كما تكرست فيه امتيازات لإحدى الطوائف في المواقع الدستورية والإدارية والعسكرية، قيل إنها أعطيت كضمانة للوجود المسيحي في لبنان الكبير بعد انضمام الأقضية الأربعة وغالبيتها من المسلمين.

 

في المقابل، قام ميثاقه الوطني غير المكتوب على تناقضات تعكس الخلاف على هوية لبنان وموقعه وانتماءه إلى محيطه العربي الطبيعي، كما أن العقد الاجتماعي الذي بني عليه الميثاق الوطني عام 1943 كان عقداً سياسياً بامتياز، وذلك بعد أن قبِل المسلمون السنّة بالمشاركة في النظام مقابل التخلي عن مطلب الوحدة، كما قبِل المسيحيون بطريقة ملتبسة فكرة لبنان ذو وجه عربي. والعقد أيضاً، كان عقداً اجتماعياً بمعنى أنه لاقى موافقة النخب المدينية والتجارية السنيّة والمسيحية، مع أرجحية للقوى الاقتصادية المسيحية لا سيّما في قطاع المصارف وفي الصناعة والخدمات والوكالات الحصرية. هذا العقد بأطرافه المدينية التي تمتلك الجزء الأكبر من الثروة الوطنية لم يجد أرضية تفاهم مع فكرة لبنان الكبير التي قامت على ضم الأقضية الأربعة من الأطراف، والتي كان من المفترض أن يشملها العقد، كي تندمج مع اقتصاد المركز في بيروت والقسم الشمالي من جبل لبنان ليتشكل اقتصاد وطني يساهم في الاندماج الاجتماعي لدولة لبنان الكبير، ويخفف من حدة الانقسامات الطائفية، ويتيح تطوير نموذج سياسي يجمع بين المنافسة السياسية والمواطنة وإيجاد الآليات الدستورية لطمأنة الطوائف. لكن هذا الأمر لم يحصل، ولم تمتلك النخبة السياسية المدينية الشجاعة والرؤية الحكيمة في تطوير هذا العقد، الذي بقي قاصراً عن استيعاب الأطراف وتحولاتها الاجتماعية ومتطلبات نموها، من خلال السياسات التي ركزت على تطوير المركز وأهملت الأطراف، ومن خلال نظام ضريبة غير عادل ساهم في تقويض فكرة التعاضد الاجتماعي، وساهم بإنتاج فوارق اجتماعية هائلة حتى في قلب نقاط المركز الذي غلب عليه طابع تركيز الثروة بأيدي قلة. لكن فؤاد شهاب الآتي إلى رئاسة الجمهورية من المؤسسة العسكرية، وبعد ثورة 1958 التي تختزن ما يكفي من الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، حاول بالتعاون مع كمال جنبلاط وبيار الجميل، التخفيف من حدة التحالف المديني والتجاري وعبئه الكبير على مناطق الأطراف وعلى الاستقرار، فانتهج السياسات التي أعطت الأطراف بعض الفرص في الكهرباء ومياه الشفة والطرق ونشر التعليم الثانوي - من خلال الدور الذي لعبه كمال جنبلاط في وزارة التربية - بعد ان أظهرت بعثة ايرفد حجم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، حيث سيطر 4% (من الشعب)على نصف الثروة الوطنية، الأمر الذي جعل قيام طبقة وسطى قبل الإصلاحات الشهابية أمراً مستحيلاً. كما حاول فؤاد شهاب أن يصالح الديمقراطية التوافقية في لبنان مع فكرة دولة القانون والمؤسسات لذلك أنشأ التفتيش المركزي وديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية، وقد شكلت هذه الخطوة المحاولة الأولى الجدية في بناء حكم القانون.

نجحت المرحلة الشهابية في إرساء بعض قواعد الاستقرار للديمقراطية التوافقية من خلال إعطاء أهمية للسياسات الاجتماعية والتربوية وبناء الخطوات الأولى لاندماج الاطراف. كما نجحت لأول مرة في إرساء سياسة خارجية تأخذ بعين الاعتبار تحديات صعود المد القومي مع جمال عبد الناصر والتعاطف الداخلي القائم ومتطلبات الحفاظ على السيادة اللبنانية والحفاظ على التوازنات المحلية المعقدة.

ولكن التحولات الاقليمية المتمثلة بانتكاسة حزيران في العام 1967 والتي تلاها فوز الحلف الثلاثي في الانتخابات النيابية، والذي وصفه غسان تويني بأنه "طليعة دولة النصارى"، هذا الحلف المتخاصم مع التجربة الشهابية غيّر في موازين القوى في الساحة المسيحية ومهّد لنهاية الشهابية.

ولا شك في أن قيام اتفاق القاهرة في العام 1969 وتعاظم مشكلة الوجود الفلسطيني بعد أيلول الأسود في الاردن وتحول الجنوب الى ساحة مواجهة مع العدو الاسرائيلي وصعود دور الامام موسى الصدر وبداية مأسسة حركة المحرومين، سيغير في موازين القوى في مناطق الأطراف لاسيما ذات الغالبية الشيعية.

إن التشوهات التي رافقت تلك المرحلة أدت إلى انقسامات سياسية ووطنية حادة ولم تكن فيها الخلافات فقط على الامتيازات والسياسات وميزان القوى الذي حكم تسوية 1943، بل على موقع لبنان ودوره في الصراع العربي الاسرائيلي وعلاقته في محيطه العربي ودور منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وأظهرت طبيعة الانقسامات في تلك المرحلة مدى التفكك وعدم القدرة على صياغة قيم مشتركة تحمي الديمقراطية التوافقية الناشئة في محيط تحكمه انظمة دكتاتورية وعسكرية، والانقسام الوطني والسياسي حمل معه الانقسامات ذات البعدين الاجتماعي والاقتصادي وذلك بين بيروت وأطرافها من أحزمة البؤس، بين طرابلس وباب التبانة، وبين المدن بشكل عام والأطراف وبين المناطق والطوائف، وعبّرت حركة كمال جنبلاط السياسية وقيادته للنضال المطلبي عن هذا الواقع المرير، كما عبّرت حركة المحرومين بزعامة الإمام موسى الصدر عن مشروعها السياسي بعنوان التهميش والحرمان فيما مضمونه الحقيقي هو الإعلان عن التحول الكبير في الاجتماع -السياسي الشيعي كمقدمة للبحث عن دور أكبر للطائفة الشيعية في النظام السياسي، في الوقت الذي فشلت فيه كل محاولات النخب الشيعية من العائلات التقليدية البقاعية على وجه الخصوص في إيجاد القواسم المشتركة مع القوى المتحكمة بموارد المركز لتأمين متطلبات نمو البقاع الشمالي ذي الاكثرية الشيعية واندماجها الفعلي بالدولة المركزية، وفي الوقت الذي خسر فيه الجنوب بعد إقفال الحدود مع فلسطين المحتلة أهم الاسواق التي كانت جزءا من تنمية اقتصاده، فاندثرت أقطاب اقتصادية محلية مثل بنت جبيل التي كانت تستقطب استثمارات كبيرة وتؤمن فرص عمل هائلة، وكذلك مرجعيون والخيام فضلاً عن خسارة مئات العمال من حاصبيا لفرص عملهم في حيفا ويافا ودون أن تؤمن الدولة اي بديل آخر، وفي الوقت الذي تخلفت فيه الدولة بعد احتلال اسرائيل لمزارع شبعا في سنة 1967 عن سداد أي تعويضات لأهالي مزارع شبعا عن مئات البيوت التي تدمرت وخسارة الأملاك الزراعية التي كانت تشكل مورداً مهماً لسكان المنطقة. في غضون ذلك كله، تحول الجنوب بعد اتفاق القاهرة في العام 1969 بغالبيته الشيعية ساحة مواجهة غابت فيه الدولة أيضاً عن أي خطط تدعم صمود الجنوبيين، على غرار ما كان يطالب به كمال جنبلاط لتعزيز الصمود في وجه الاعتداءات الإسرائيلية وإنشاء الملاجئ لحماية السكان المدنيين من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.

ساهم وصول سليمان فرنجية إلى سدة الرئاسة في العام 1970 على إنقاض ما تبقى من الشهابية، والمستند الى تحالف وثيق مع نظام الأسد والذي امتزجت فيه العلاقات العائلية ومتطلبات التحضير لتحالف الأقليات، بتعميق مشكلة المشاركة الإسلامية في الحكم وتصاعد حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وأزمة الوجود الفلسطيني ناهيك عن قرار استخدام الجيش في النزاع الداخلي وما ترتب عليه لاحقًا من تبعات أدت الى انقسام المؤسسة العسكرية. وقد شكل التقارب الذي حصل بين الجبهة اللبنانية والنظام السوري في ذلك الوقت والتصاق عهد سليمان فرنجية بهذا النظام، عقبة أمام التوصل إلى أي تسوية سياسية تتيح تحديث النظام وإعادة توزيع الصلاحيات فيه، الأمر الذي مهّد مع أسباب أخرى للتدخل السوري.

في المقابل تمكّن كمال جنبلاط من توحيد اليسار والاتفاق على رؤية وطنية لإصلاح النظام سياسياً وإدارياً واقتصادياً من خلال البرنامج المرحلي للأحزاب والحركة الوطنية، ولكن للأسف العناد الذي واجهه كمال جنبلاط من الجهة المقابلة برفض الإصلاح والتخلي عن الامتيازات والاستعداد للمواجهات المسلّحة، قوّض كل الآمال بإيجاد تسوية سياسية تمهّد لتحديث النظام السياسي في لبنان وفتح الطريق نحو حرب داخلية امتدت خمسة عشر عامًا.

شكّل الدخول العسكري السوري الى لبنان لاحقاً برضى أميركي وسوفياتي وعربي، أحد أهم التحديات التي ستواجه الديمقراطية التوافقية وتوازناتها وشروط تطورها، وكذلك موقع لبنان ودوره عربياً ودولياً. كما شكّل اغتيال كمال جنبلاط في العام 1977 ضربة كبيرة للمشروع الوطني الذي كان يمثله، الأمر الذي سيفتح الطريق امام النظام السوري إلى تكوين جماعات في داخل كل طائفة تدين بالولاء لسياساته الداخلية والاقليمية، كما سيتمكن من التغلغل في المفاصل الإدارية والعسكرية والأمنية والقضائية للدولة. ولا شك في أن رهان بعض الأطراف اللبنانية على الاحتلال الإسرائيلي، والتغيير في ميزان القوى الإقليمي بعد اتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، شكل عاملاً حاسماً في تعميق الانقسام الوطني وانهيار الثقة بين الطوائف، ووضع لبنان أمام تحديات جديدة وباتت كل طائفة تبحث عن حماية إقليمية أو دولية. وقد أدت هذه الرهانات إلى إضعاف سيادة لبنان وتقويض الثقة بالدولة المفترض أنها المؤسسة الوحيدة التي تقع عليها مسؤولية حماية الناس والطوائف، وتحوّل لبنان إلى ساحة حرب اختلطت فيها الأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية، وقد وصفها غسان تويني بوصف مثير للجدل حين قال عنها إنها حرب الآخرين على ارض لبنان. وشكّل الحزام الأمني الذي أقامته إسرائيل في جنوب لبنان واعتداءاتها المتكررة واحتلالها بيروت كأول عاصمة عربية في حزيران من العام 1982 وأجزاء من جبل لبنان أصعب التحديات على وحدة البلاد وسلامة أراضيها وعلى العلاقات بين اللبنانيين بعد ثبوت مشاركة ميليشيات يمينية بمجازر صبرا وشاتيلا. ولا بد من التذكير أن القرار الوطني بمواجهة احتلال بيروت وإعلان المقاومة الوطنية من منزل كمال جنبلاط في المصيطبة كان له الأثر البالغ بالانسحاب من بيروت التي أظهرت بتماسكها الوطني انها ليست لقمة سائغة في فم الاحتلال.

مهّدت التحولات الإقليمية بعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران وسعيها للحصول على موطئ قدم في شرق المتوسط، وكذلك الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على جنوب لبنان، إلى قيام حزب الله الذي كان من أولى مهامه الاستفراد ببندقية المقاومة في الجنوب واستبعاد أي شراكة شيعية أو وطنية، الأمر الذي سيمهد إلى تغيير موازين القوى داخل الطائفة الشيعية، وسيطرح تحديات كبيرة على العقد الاجتماعي للجمهورية الأولى، حيث أن الشريك الجديد القادم إلى الجنوب من بوابة المقاومة الإسلامية يحمل مشروعاً متناقضاً مع الإرث الذي حمله التاريخ السياسي الجديد لجبل لبنان، ومع الأسس التي قامت عليها جمهورية لبنان الكبير، لا سيّما منها علاقتها في الشرق والغرب، وتركيبة النظام السياسي وتوازناته المعقدة.

من جهة أخرى، تمكّن التحالف الذي أقامه وليد جنبلاط ونبيه بري بدعم سوري من إسقاط اتفاق السابع عشر من أيار، وتمكّن وليد جنبلاط من حسم حرب الجبل وتأمين طريق المقاومة إلى الجنوب وإعادة فتح طريق الشام إلى بيروت. وأتساءل كم كانت التداعيات السياسية كبيرة على سوريا ولبنان لولا هذا الإنجاز الجيو-استراتيجي الكبير الذي حققه وليد جنبلاط ومعه شرائح وطنية متعددة. لكن للأسف بقي النظر إلى هذا الإنجاز من زوايا ضيقة، وجاءت التطورات الإقليمية خصوصاً مع استمرار احتلال اسرائيل لجنوب لبنان، ومغادرة منظمة التحرير الفلسطينية، وفشل كل محاولات إيجاد تسوية سياسية لإعادة ترتيب أوراق النظام وتوازناته، فسقط الاتفاق الثلاثي وصعدت القوات اللبنانية في مرحلة ما بعد ايلي حبيقة بزعامة سمير جعجع الذي سيصبح منافساً رئيسياً في الساحة المسيحية لحزب الكتائب ولاحقاً لميشال عون الساعي لرئاسة الجمهورية من منصة الحكومة العسكرية. انعكس ميزان القوى الجديد هذا في عدم قدرة الطرف السوري في فرض مخايل الضاهر مرشحه الوحيد لرئاسة الجمهورية، الأمر الذي أدى إلى تعطيل هذا الاستحقاق وإلى قيام أمين الجميل بتشكيل حكومة عسكرية بقيادة ميشال عون الذي كان قد تولى قيادة الجيش عام1984 بمباركة سورية. هذا الإجراء قابله استمرار حكومة الرئيس سليم الحص، ودخل النظام السياسي في مرحلة دقيقة، حيث انشطر القرار بين حكومتين متناقضتين في الأهداف والممارسة الأمر الذي عرّض وحدة الدولة ومؤسساتها لأخطر الامتحانات والتداعيات. وقد تبين لاحقاً أن أحد الأهداف الرئيسية لحكومة ميشال عون العسكرية كان التشبث والإمساك بالسلطة، وتعطيل أي مبادرة عربية او دولية لعقد مؤتمر وطني لإصلاح النظام، ما لم تكن على جدول أعمال التسوية انتخابه لرئاسة الجمهورية، ما وضع البلاد أمام تحديات اتساع دائرة العنف من خلال إعلان الحروب المتعددة والتي أعلنها في سياق تحقيق هذا الهدف، كما أظهرت التطورات الداخلية لاحقاً.

انتهت الحرب اللبنانية التي دامت خمسة عشر عاماً في مرحلة تحول في المسار الدولي، حيث نشأ تفاهم أميركي سعودي وسوري أدى إلى انعقاد مؤتمر الطائف، طبعاً بعد أن جرت بعض التحولات في ميزان القوى الداخلي، لا سيّما بعد معركة سوق الغرب في 13 آب 1989.

خلاصة؛
لعل من اهم استنتاجات مرحلة الجمهورية الأولى هي أن النخبة التي قادت هذه الجمهورية من الاستقلال وحتى مرحلة الدخول السوري، استطاعت أن تجد أرضية للتسوية في بعض المسائل التي تتعلق بآليات النظام وتشغيل مؤسساته الدستورية بطريقة مقبولة، لا سيّما في مجلسَي النواب والوزراء، وتمكنت هذه النخبة من تطوير أعراف حافظت على الحد الأدنى من الشراكة الإسلامية المسيحية، ومن الاحترام والتسامح المتبادل، الأمر الذي مكّن المجالس النيابية من أن تقوم بدورها التشريعي ومراقبة عمل الحكومة وبرزت كتل نيابية هامة في هذا المجال، كما تمكنت حكومات عديدة، من تأمين الخدمات الأساسية وتطوير المناخ الاستثماري الذي ساعد في الكثير من الاستثمار في الاقتصاد الوطني. وحافظت هذه النخبة على أعراف مثل حرية الصحافة وسيادة القانون وحرية التعبير وحماية الملكية وغيرها من الأعراف، وكان لهذه النخبة الكثير من المواقف ذات الابعاد الوطنية وكانت على مستوى من الإلمام الواسع بتاريخ لبنان الحديث والتحولات التي حصلت على الصعد كافة لقيام دولة لبنان الكبير ومرتكزاتها السياسية والإيديولوجية.

استطاعت هذه النخبة بناء إدارة حديثة مع قيام أجهزة رقابة أدت دورها بفعالية، وكان على رأسها قادة إداريين مميزين، وتمكن مجلس الخدمة المدنية من اجتذاب كفاءات إدارية هامة من خلال الامتحانات التي اعتمدت الكفاية سبيلاً لتولي الخدمة العامة. كما استطاعت آليات النظام في ذلك الوقت  تأمين الخدمات الأساسية، لا سيّما الكهرباء حيث كانت مؤسّسة كهرباء لبنان من أهم المؤسّسات الحكومية في دول الشرق الأوسط. واستطاعت مرافق مهمة مثل المرفأ والمطار من القيام بدورهما الاقتصادي الكبير، وشكلت شركة طيران الشرق الاوسط، وما تزال، علامة مميزة في تاريخ لبنان، وتمكنت هذه النخبة من خلال تفاهماتها تأمين احتياجات لبنان النفطية من خلال مصفاة طرابلس والزهراني. وتمكن مصرف لبنان من انتهاج سياسة نقدية حافظت على قيمة مميزة للعملة الوطنية تجاه العملات الصعبة مما عزز القيمة الشرائية للمواطنين.

وفي الإطار السياسي، تمكنت هذه النخبة من إبعاد لبنان عن كأس الوحدة المصرية والسورية واستيعاب انعكاسات حصولها وانفصالها، وتولى المسؤوليات في وزارة الخارجية في حكومات متعددة شخصيات دبلوماسية عريقة، استطاعت قيادة سياسة لبنان الخارجية ببراعة، ومارست مهامها الديبلوماسية بحرفية عالية، مكنت لبنان من تعزيز انفتاحه الدولي وتقوية اواصره مع العالم العربي، لا سيّما دول الخليج التي وفّرت أسواقها آلاف فرص العمل للبنانيين وحققت استثماراتها في لبنان نمواً كبيراً للاقتصاد الوطني.

برز من بين النخبة في الجمهورية الأولى أيضاً رجال دولة مثل كمال جنبلاط وريمون إده وفؤاد شهاب، وغيرهم ممن عرفوا كيف يخاطبون الناس ويجعلوا الخيارات أكثر عقلانية. في هذه الجمهورية قامت الجامعة اللبنانية التي كانت إحدى ثمرات نضال كمال جنبلاط ومعه أحزاب اليسار، والتي حققت لاحقاً توازناً وطنياً كبيراً في عملية تطور الاجتماع السياسي اللبناني وساهمت في خلق طبقة وسطى. كما تمكن أكاديميون كبار في الجامعتين الأميركية واليسوعية من جعل لبنان جامعة للنخب العربية.

وتمكن القطاع الخاص في لبنان في تلك الفترة أن يلعب الدور الاساسي في الاقتصاد اللبناني الذي بلغ مستوى هائلاً من النمو في مرحلة الخمسينيات، وحافظ لبنان لعقود على ميزان تجاري مقبول من خلال قدرة القطاع الصناعي على الإنتاج القابل للتصدير، ومن خلال السياحة، واستطاع رجال الأعمال تطوير ميزات تفاضلية في الصحة والمصارف والخدمات الأخرى حيث غدا لبنان أيضاً مستشفى العرب. 

باختصار، تمكن لبنان في تلك المرحلة من بناء ثقة عربية ودولية جذبت إليه استثمارات متعددة ساعدت في تطوير وظيفته الاقتصادية خصوصاً بعد قرار المقاطعة العربية، الذي فتح الطريق لمرفأ بيروت كي يلعب دوراً هاماً في تجارة الترانزيت.

الدروس المستقاة 
أما الدروس المريرة المستقاة من تلك التجربة، فهي أن النخبة التي صاغت أو ورثت تفاهمات الميثاق الوطني، لم تتمكن من إدراك أهمية السياسات الاجتماعية والاقتصادية في عملية الاندماج الاجتماعي وتكوين عناصر الاستقرار للنظام، حيث بقيت مناطق الأطراف، كالبقاع والجنوب وعكار الغارقة في الفقر وكذلك ضواحي المدن، معزولة عن الاقتصاد الوطني. كما لم يتمكن بعض هذه النخبة من إدراك تداعيات الاستقواء بالخارج للوقوف في وجه محاولات تطوير وإصلاح النظام، الأمر الذي تسبب بانهيار الثقة واستجلب الى جانب أسباب أخرى الوصايات والاحتلالات.

ولا شك في أن أعقد التداعيات على الجمهورية الأولى كان في قيام ونشأة الكيان الصهيوني وفي مواجهة سياساته العدوانية وأطماعه في المياه اللبنانية، ومحاولاته المستمرة في ضرب التجربة اللبنانية التي تشكل نقيضًا لهذا الكيان. وفي المقابل، لم تتمكن الدولة، وعلى الرغم من أن لبنان كان قد وقّع في العام 1950 بشخص رياض الصلح على معاهدة الدفاع العربي المشترك، من صياغة استراتيجية وطنية للتعامل مع هذه التحديات نظراً للانقسام الوطني حول هوية لبنان وموقعه من الصراع العربي- الإسرائيلي وميثاقه الوطني الملتبس الذي قام على نفيين "لا للشرق ولا للغرب". وتعاملت النخبة اليمينية مع هذه التداعيات بخبث انطلق من أحقاد دفينة مردّها إلى القلق الديمغرافي، رغم الدور الذي لعبه الرأسمال الفلسطيني القادم والعمالة الفلسطينية في إنعاش الاقتصاد اللبناني، وبقيت هذه النخبة تنظر إلى اللاجئين الفلسطينيين كمصدر خطر على التركيبة اللبنانية، الأمر الذي أدى إلى حرمانهم من أبسط الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وجعل من المخيمات أحزمة بؤس وحرمان وقنابل موقوتة.

وعلى الضفة الأخرى ساهم رهان اليسار على منظمة التحرير الفلسطينية في تكوين ميزان قوى داخلي لصالح تغيير النظام في خلق تداعيات على صعيد العلاقات بين مكونات النظام، وربما ساهم أيضاً بتصعيد جولات العنف المتكررة، وقد فتح الطريق لمنظمة التحرير- بالإضافة إلى عوامل أخرى- إلى أن تصبح دولة ضمن الدولة. كما أن تحول لبنان إلى ساحة مواجهة برعاية سورية كانت له تداعياته على دور لبنان في المنطقة وكلفته الانسانية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن التداعيات التي عانى منها أهل الجنوب في مرحلة الوجود الفلسطيني، ولاحقاً في مرحلة الاحتلال الإسرائيلي المباشر، في الوقت الذي كان فيه الجولان هادئاً وآمناً بفضل تفاهمٍ أميركي - سوري قضى لاحقاً بالتعويض على سوريا من خلال إطلاق يدها في لبنان لمحاصرة مشروع كمال جنبلاط وضبط منظمة التحرير الفلسطينية واحترام الخطوط الحمراء المتفق عليها. 

أختم لأقول، آسف أن التاريخ قد أعاد نفسه في الجمهورية الثانية في المحطات البائسة من الجمهورية الأولى. وفي حين اعتمدت الاستراتيجية السورية في مرحلة حافظ الأسد وحتى وفاته في العام 2000 على تسويق وفرض سياساتها من خلال هيكل الدولة وأنظمتها البيروقراطية في اشكالها كافة، تحولت في مرحلة بشار الأسد حتى الانسحاب السوري في العام 2005 إلى استراتيجية بناء نظام أمني لبناني سوري لعب فيه حزب الله دورًا أساسيًا في مصادرة قرار الدولة وسيادتها على السياسة الدفاعية. ويمكن القول إنه بعد استشهاد الرئيس الحريري وانسحاب القوات السورية أعيد تشكيل النخبة التي انخرطت في مؤسسات النظام، فبرزت نخبة حزب الله التي تتميز بثقافة غير مدنية عمادها نظرية ولاية الفقية، ثقافة منقطعة عن تاريخ لبنان الحديث ولا تفقه معنى التسوية في النظام التشاركي. كما انخرطت نخبة التيار الوطني الحر الآتية من أصول عسكرية ومدنية مختلفة ومتناقضة، نخبة تبين أنها لا تملك أي مشروع سياسي وطني سوى مشروع الوصول الى السلطة وحيازتها من خلال مقاربة اللعب على مآسي الماضي واستنفار العصبيات المذهبية وإعادة إنتاج الانقسامات العامودية ومقايضة السيادة بالنفوذ الداخلي، نخبة حسمت خيارها السياسي بتحالف أقلوي يضمن لها الاستمرار في مواقع السلطة دون النظر الى احد مقومات الدولة واستمرارها وهي السيادة على قرار السلم والحرب والسياسة الخارجية.

يعيد التاريخ نفسه في الجمهورية الثانية أيضاً من خلال إنعاش تحالف الأقليات ليضع لبنان مجددًا أمام تحدٍ وجودي، كما عادت محاولات الاستقواء بالخارج لتعديل ميزان القوى الداخلي، وعادت مقايضة السيادة الوطنية بالمناصب والكراسي والنفوذ الداخلي، في الوقت الذي يتشكل فيه مشهد جيوسياسي معقد في المنطقة قد يطيح في لحظة معينة بالكيان وأسسه. وبدل أن تستقى الدروس من الذين يحتلون أرفع المناصب في الدولة، قاموا وسنداً للرهان على تحالف الأقليات وتحت شعار تحقيق التمثيل المتوازن بالضغط لإقرار قانون انتخاب يستجيب لهذا التحالف، الأمر الذي أدى إلى إخلال كبير في التوازنات الوطنية وضاعف من حدة الانقسامات المذهبية والطائفية، وأقفل كل فرص التغيير على الشباب اللبناني. إضافة إلى الممارسات غير الدستورية التي جرت وتجري تحت شعار تحقيق الميثاقية والتي ترجمت بتعطيل مجلس النواب في استحقاقات انتخابات رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومات وابتداع أعراف جديدة لا تمت بصلة لتاريخ لبنان السياسي ولا لأسس تشغيل مؤسساته الدستورية، وهذه الممارسات أدت الى تقويض ثقة الناس بالدولة التي بدت في أضعف ادوارها المؤسساتية منذ الاستقلال وحتى اليوم.

ولاستكمال المشهد السياسي لما يسمى بتحالف الأقليات، فرضوا سياسة خارجية تتناقض مع أسس وسلامة الكيان ورغبات أكثرية الشعب اللبناني، سياسةً عزلت لبنان عربيًا ودوليًا، وغطت استخدام لبنان منصة صواريخ لخدمة أهداف الجمهورية الإسلامية في إيران. ببساطة بعد كل ما جرى من انهيار مالي واقتصادي وإفقار لأكثر من نصف الشعب اللبناني ومن عذابات وآلام التي خلفها انفجار 4 آب، تستمد هذه السلطة مقومات بقائها من استمرارية صلاحية مقايضة السيادة بالمناصب والنفوذ الداخلي. ولكن يبقى السؤال المركزي الذي طرحه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط على الجمهورية الاسلامية في ايران، بمعنى هل تعترف ايران بوجود الدولة أم أن لبنان هو مقاطعة إيرانية؟ هذا السؤال هو ايضاً برسم حزب الله الذي يشكل الذراع الاساسية في الاستراتيجية الايرانية لبسط النفوذ لاسيما في شرق المتوسط.

اعتقد انه على الرغم من الخلل الكبير في ميزان القوى المحلي، وعلى الرغم من عدم نضوج الظروف لقيام اي تكتل في مواجهة حلف الأقليات، اعتقد أن تجديد الآمال وعدم الوقوع في اليأس يقضي بالقول أنه حان الوقت لمشروع سياسي متماسك أساسه استعادة الدولة لسيادتها على سياستها الدفاعية والخارجية، وإرساء تفاهم وطني لعقد اجتماعي جديد، يقوم على الحياد الايجابي وبناء اقتصاد وطني منتج وتوزيع عادل للثروة، وقانون انتخاب يعيد الثقة الى جيل الشباب بإمكانية التغيير.