Advertise here

جريدة التغيير الوطني بالصوت المدني

17 كانون الأول 2018 01:13:00 - آخر تحديث: 24 كانون الأول 2018 12:31:17

هذا العنوان تستحقه "الأنباء" بتحوّلها إلى صحافة العصر الإلكتروني بالحرف الضوئي.
وهي تخترق هالة هذا العصر بإنتمائها الأصيل إلى مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة والمدنية، ورأسمالها والشجاعة والصدق، والحقيقة في مواجهة طوفان التخلّف والجريمة، على اختلاف لغاتها، وانتماءاتها الفكرية والقومية.
ولهذه الجريدة تاريخ حزب وقائد، مكتوب بدماء الشهداء الذين أُدرجوا في سجل الشرف دفاعاً عن قضية شعب ووطن، وفي طليعتهم الرئيس المؤسس والقائد كمال جنبلاط.
مئة سنة، وسنة، مرّت على شروق شمس ولادته في السادس من كانون الأول الجاري، ولم تغب...
إحدى وأربعون سنة مرت على استشهاده في 16 آذار 1977، وكأنها الأمس الذي عبر.
ويستمر كتاب التاريخ مفتوحاً على ذكراه، وعلى عطائه، فكراً، وعزيمة، وقوة، وإيماناً بالنصر الذي وعد به، وهذه الجريدة "الأنباء" تواكبه، وهاهي اليوم تتجدد بالتحول من حرف الحبر إلى الحرف الضوئي الإلكتروني، لتجاري صحافة العصر ومتابعة الرسالة التي حملتها بإسم الحزب التقدمي الإشتراكي.
هل هو القدر الذي أملى على كمال جنبلاط كتابة وصيته في المقال الأول في جريدة "الأنباء" يوم صدورها بإسم الحزب التقدمي الإشتراكي (16 آذار 1951) بعنوان "قبيل المعركة"؟.
في ذلك المقال كتب: "على كل فرد منا أن يكون على أهبة أن يواجه القوة المادية، وأن يصارع السلطان الغاشم، وأن يرمي بماله، بدمه، بحياته، بأولاده في حلبة الصراع".
إن يكن ذلك الحدث التاريخي الرهيب (16 آذار 1977) بفعل ذلك السلطان الغاشم الفظ الذي إن لم يكن يقتل أمّة بكاملها، فبفعل من يكون؟..
ولقد ذهب كمال جنبلاط، بملء إرادته، وبكامل وعيه، وعزمه، وشجاعته، وإيمانه، ليرمي في وجه ذلك الغاشم دمه وحياته.
وفي جريدة "الأنباء" يوم تاريخي في مسيرة الحزب التقدمي الإشتراكي بقيادة كمال جنبلاط (18 آذار 1951)، كان "يوم الباروك" وسقوط ثلاثة شهداء للحزب، وضابط شهيد في سلك الدرك، ويومها كانت كلمة جنبلاط "اليوم تعمّد حزبنا بالدم"، وفي ذلك اليوم اختبر معنى الشهادة، لدى الأبناء والإخوة والأهل وهم يستقبلون الشهداء العائدين على الأكتاف بالحداء والزغاريد. وما من أحد سواه كان يمكن أن يدرك الشعور الذي انتابه عندما وقف أمام جثمان أحدهم وانحنى ليلثم جبينه فسالت دمعته، وخرج صوت إبنة الشهيد وهي تأخذ يده براحتيها وتصرخ: دمعتك غالية يا كمال بيك، ودماؤنا فداك رخاصٌ، وفي ذلك اليوم تآلف مع ذكر الدم والشهادة.
ثم كان يوم 17 آب 1952 تاريخياً، ففي ذلك اليوم أطلق جنبلاط بإسم الشعب اللبناني من ساحة "دير القمر" نداء تاريخياً إلى رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري في قصر بيت الدين، حيث كان يصطاف، وقد تردد ذلك النداء بصوت عشرات الألوف المتقاطرة إلى دير القمر من جميع مناطق جبل لبنان، وبيروت، والشمال، والجنوب، والبقاع، تلبية لدعوة أقطاب "الجبهة الإشتراكية الوطنية" وبإسم الصناعيين، والمزارعين، والمنتجين، وبإسم أرباب المهن الحرة، بإسم كل لبناني، بإسم لبنان، على اختلاف نزعاته، وأحزابه، ومناطقه، وطوائفه، وهيئاته، أناشدكم أيها الرئيس وأطلب منكم أن تصلح أو أن تعتزل."..
لم يذهب ذلك النداء في الريح، فيوم 30 أيّار 1952 فاجأ كمال جنبلاط الحكم والأوساط السياسية والشعبية بمقال في جريدة "الأنباء" عنوانه "جاء بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب".
ذلك المقال دخل في سجل الأحداث السياسية المتصاعدة حدة وتحدياً للسلطة وللرئاسة التي شاءت الصمت بقصد التخفيف من وطأة المعارضة على الرأي العام.
لكن الرئاسة كانت في اتجاه والرأي العام الشعبي والسياسي في اتجاه معاكس.
ففي يوم صدور "الأنباء" بذلك العنوان تحول المقال منشوراً بآلاف النسخ. ولم تمضِ ساعات حتى كانت المناشير تلصق على جدران الشوارع الرئيسية وفي الأحياء الشعبية: "جاء بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب".
ثم ظهرت فرق شبابية مؤلفة من طلاب وطالبات أخذوا يدسّون المنشورات في حافلات الترامواي، وفي سوق الخضار وفي سيارات "السرفيس" حيث كانت تصطف في شارع المعرض.
كان المنشور مطبوعاً باحرف مكبرة لمقاطع وعناوين من مقال "الأنباء".
"مشكلة البلد أن فيه عصبة لم تأتِ من طريق الشعب (...) وقد تحولت عصبة عائلية تعمل لصالح العائلة، ولمجد العائلة، ولتقوية العائلة، كأن الدولة "دولة عائلة" وكأن الوطن "وطن عائلة" وكأن العهد "عهد عائلة".
ومنشور آخر حمل فقرات وعناوين أخرى منها:
"خلقهم الإنتداب، ولم يُعرف عنهم اذ لهم مبادئ (...) جل مبتغاهم الوصول إلى الكرسي (...) يسعون إليها جادين، ملهوفين، لاهثين، مضمرين..."
"النواب أتوا إلى المجلس عن طريق الحزبيات الخاصة، زعامتهم إدعاء، ووهم، وتزوير... تبنوا قضية ليست قضيتهم، وليسوا هم من أبطالها". "فإلى أين الهرب يا أرباب الهرب.!".
في ذلك اليوم كانت جريدة "الأنباء" قد وصلت باكراً إلى غرفة نوم الرئيس الشيخ بشارة الخوري في "قصر القنطاري" فقرأ مقال كمال جنبلاط وفوراً اتصل برئيس الحكومة سامي بيك الصلح ليسأله اذا كان قرأه. ولم يكن الرئيس الصلح قارئاً جيداً للصحف لكنه كان موصوفاً بأنه أحد أذكى رؤساء الحكومات، وهو كان قد إطلع على المقال ضمن تقرير وصله باكراً أيضاً.
فقال للرئيس الخوري انه سيعالج الأمر مع وزير الأنباء ومع وزير العدل. لكن جهاز القصر الجمهوري كان قد تحرك وأصدر أمراً إلى غرفة "شرطة المطبوعات" بمصادرة أعداد جريدة "الأنباء" ثم صدر قرار بوقفها عن الصدور، وإحالتها على "محكمة المطبوعات" مع مذكرة بتوقيف المدير المسؤول فيها.
ما زالت تفاصيل ذلك الفجر (30 أيار 1952) راسخة في ذاكرتي، وكأنها حدثت فجر هذا اليوم الذي أكتب فيه.
كانت جريدة "الأنباء" تطبع في مطبعة "لورفاي" في (خان أنطوان بيك) على مسافة قصيرة من مكاتب جريدة "النهار" في آخر "سوق الطويلة" الموازي من جهة الشرق شارع "اللنبي" في مدينة بيروت العريقة التي تعرف اليوم بـ"الداون تاون"، والتي باتت تعرف بـ"البلد" أو  "الأسواق"، وهي كانت درة عواصم الشرق.
على رأس شارع "اللنبي" المتصل بشارع "ويغان" حيث مركز بلدية بيروت، كان هناك مطعم صغير اسمه "مرّوش"، مؤلف من طبقتين، الأرضية منهما تتسع لـ "دست الفول" و"دست الحمص"، وفيها طاولة لثلاثة أشخاص، وطاولة أخرى أمام الباب على الرصيف لثلاثة زبائن أيضاً وفي الطبقة العليا ثلاث طاولات متلاصقة بستة زبائن. في الطبقة الأرضية كان يلتقي مع الفجر "عتالة البور"، القريب. كان هؤلاء يجلسون والحبال المجدولة على أكتافهم. وبأصابعهم القوية كانوا يلتهمون صحون الفول بدقائق، ثم يمضون إلى حوض الرزق على المرفأ القريب.
أما في الطبقة العليا من ذلك المطعم الذي لا يقدم سوى "الفول المدمس" و"البليلة" و"الحمص بطحينة"، و"الفتة"، فكانت تلتقي كوكبة من وجوه السياسة والنيابة، والحكم، والثقافة.
الى ذلك المطعم دلفت باكراً صباح يوم 30 أيار 1952 حاملاً نسخة من طبعة جريدة "الأنباء"، كان عبق رائحة الفول والحمص يشق النفس، وكان هناك في الطبقة العليا تقي الدين الصلح، وكاظم الصلح، ونصري المعلوف، ومن الصحافيين لويس الحاج (النهار) وعبدالله المشنوق (بيروت المساء) وزهير عسيران (الهدف).
وكنت أحمل النسخة الأولى من "الأنباء" بالعنوان المكبّر باللون الأحمر: "جاء بهم الأجنبي...فليذهب بهم الشعب، بقلم كمال جنبلاط.
وما إن رأت الكوكبة السياسية – الصحافية العنوان حتى سمعت صفيراً معبّراً عن ذهول. وقال المحامي نصري المعلوف وهو ينظر إليّ: أنصحك بأن لا تذهب إلى مكتبك، ولا إلى بيتك.. والأفضل أن تطلع إلى المختارة قبل أن "يكلبجوك"!
وفوراً صدر قرار بتكليف شرطة المطبوعات مصادرة "الأنباء" من الأسواق والمكتبات وشركة التوزيع، وخلال ساعات قليلة اختفت "الأنباء" من الأسواق ومن المكتبات والباعة... كان سعر العدد في ذلك الوقت 25 قرشاً، فإرتفع السعر إلى عشر ليرات لبنانية.
وقد نفدت سريعاً، في تلك الاثناء كان عضو "الجبهة الإشتراكية الوطنية" غسان تويني النائب وراعي جريدة "النهار" قد تبلغ ما حدث لـ "الأنباء"، فإتصل بنائب "الجبهة" بيار إده، وبالتشاور والتنسيق مع كمال جنبلاط توجهت سيارتان تحمل كل منهما لوحة مجلس النواب إلى مطبعة "لوريفاي" وتولى السائقان نقل الرزم الباقية من أعداد "الأنباء" إلى مكاتب "النهار" القريبة في "سوق الطويلة"، وفي الوقت عينه كان الصحافي الوطني اليساري (الشهيد فيما بعد) نسيب المتني صاحب ورئيس تحرير جريدة "التلغراف" ملازماً مطابع جريدته وهي تقذف مئات النسخ من مقال "الأنباء"وتوضب في رزم وتسلم إلى مجموعة من الرفاق الذين تولوا تهريبها وتوزيعها في السر في معظم أحياء العاصمة حيث كان للحزب التقدمي الإشتراكي رفاق وأنصار خصوصاً في الأحياء التالية: وطى المصيطبة – المزرعة – بربور – جل البحر – رأس بيروت – البسطة – خندق العميق – الأشرفية - ساحة ساسين – الصيفي – الدورة. أما الحصة الكبيرة من نسخ "الأنباء" المصادرة فكانت لدار المختارة حيث تسلمها فرع الحزب التقدمي الإشتراكي وجرى تعميمها على بلدات الشوف وإقليم الخروب، وصولاً إلى جزين وصيدا...
وفي حين أعلن كمال جنبلاط مسؤوليته الشخصية عن المقال وطلب محاكمته هو شخصياً، لا المدير المسؤول لـ"الأنباء"، عقدت "الجبهة الإشتراكية الوطنية" اجتماعاً وأصدرت بياناً تعلن فيه تبنيها المقال، وتتحمل مسؤوليته.
ولم تكتفِ الجبهة بذلك، بل تقدم النائب غسان تويني باستجواب إلى الحكومة حول موقفها المخالف لحق النائب جنبلاط بنشر آرائه، ولحق الرأي العام اللبناني بالإطلاع على مواقف ممثليه، ثم قدمت الجبهة في بيان لاحق استجواباً جماعياً للحكومة أدرجت فيه نص مقال جنبلاط ووزعته على الصحف فينشر في اليوم التالي بكامله افتتاحيات في "النهار" و"بيروت" و "الأوريان" و"البيرق" و"التلغراف" و"صدى لبنان" و"النداء" و"لوسوار".
ومع ذلك أصر رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري على محاكمة "الأنباء" فتقدم جنبلاط بطلب محاكمته شخصياً نيابة عن المدير المسؤول لـ"الأنباء" ذلك اليوم الشهير الذي عجل بوقوع الحكم في الخطيئة الكبرى التي انقلبت عليه.
فيوم الرابع من حزيران 1952 تهيأت محكمة المطبوعات في قصر العدل الذي كان محاذياً للسرايا الكبيرة في قلب العاصمة بيروت، وانتشرت قوة كبيرة من الشرطة عند مطلع الدرج المؤدي إلى المحكمة بدءاً من ساحة رياض الصلح على خط الترامواي القديم.
كانت محطة "الترامواي" تقع عند مطلع الدرج المؤدي إلى باحة قصر العدل. وعلى رصيف تلك المحطة وقف بعض الرفاق من الحزب التقدمي الإشتراكي بانتظار وصول الرئيس جنبلاط ومفوض العدل نائب الرئيس في الحزب فؤاد رزق، وكانت فرقة من رجال الشرط بقيادة ضابط تقف على مطلع الدرج إلى العدلية، ولا تسمح بالمرور الا للمحامين والمطلوبين للمحكمة.
وكنا ثلاثة رفاق ومعنا مصوّر من جريدة "الأنباء" ولم يُسمح لنا بصعود الدرج إلى المحكمة، فوقفنا على الرصيف وسط ازدحام المرور والأفواج المتحركة عبر ساحة رياض الصلح ومنها.
ووصل كمال جنبلاط والمحامي رزق، ولم يحضر ايلي مكرزل المدعي عليه، فقد كان في دار المختارة.
واذ حاولنا نحن الثلاثة والمصور الدخول مع الرئيس تصدى لنا رجال الأمن، ومنعونا.. وقال الضابط لجنبلاط: هذه هي الأوامر.
مع مرور الوقت ازداد عدد الرفاق والأنصار على الرصيف، وفي الأثناء وصل شيخ من الموحدين الدروز، وهو معروف بأنه من أشد أنصار كمال جنبلاط في بلدة بيصور في قضاء عاليه، هو الشيخ بونايف عبدالله ملاعب الذي كان يتابع الاخبار ولا يدع مناسبة عامة يكون فيها كمال جنبلاط حاضراً إلا ويشارك فيها.
كان الشيخ معتدل القامة بزيه الديني المعروف، وقد طوى عباءته السوداء بأناقة على ساعده الأيسر، وفي يده اليمنى عصاه. وتقدم بمهابة عمامته البيضاء حتى بلغ الدرج الصاعد إلى قصر العدل، فلاقاه ضابط الشرطة وقال له باحترام: "ممنوع، يا شيخ"، ولم يعترض الشيخ، إنما تمتم "ممنوع..ممنوع"!. ثم استدار وانضم إلى الواقفين على الرصيف، وسط الازدحام.
استمرت المحاكمة أكثر من ساعة صدر بعدها الحكم باستمرار تعطيل جريدة "الأنباء" أربعة عشر شهراً.. ثم ظهر كمال جنبلاط والمحامون وهم يهبطون درج العدلية. كان الإزدحام شديداً على خط الترامواي، وعندما وصل كمال جنبلاط إلى الرصيف أحاط به بعض أفراد الشرطة في حين تقدم الشيخ بونايف نحوه فإعترضه الضابط واضعاً كفيه على صدره محاولاً دفعه إلى الوراء فما كان من الشيخ بونايف الا أن رفع عصاه وهوى بها على كتف الضابط، وانفجرت صيحات هياج، وتوقفت حافلات الترامواي ونزل الركاب منها، ولم نعد نرى الرئيس جنبلاط وسط ذلك الحشد، وفجأة علا التصفيق، ورأينا الرئيس مرفوعاً على الأكتاف وسط هتافات لم نكن نعرف من يطلقها، ولا نعرف من هم الذين يحملونه، وهو كان يحرك يديه بإنفعال رافضاً ما يجري.
وخلال دقائق قليلة تقاطرت الجماهير من ساحة رياض الصلح والشوارع المحيطة بها، ثم رأينا التظاهرة العفوية تمشي بكمال جنبلاط مرفوعاً فوق الأكتاف نحو ساحة البرج وهو يتابع اعتراضه بحركة يديه، ونحن نتابع المشهد ونمشي في الموكب ولا نعلم ماذا حدث وعندما بلغت التظاهرة العفوية رأس شارع المعرض ارتفعت أصوات صارخة: إلى مجلس النواب... إلى مجلس النواب. لكن ثلة من الشرطة والجيش سدت مدخل شارع المعرض، فتابعت التظاهرة مسيرتها نحو ساحة الشهداء والجماهير تتقاطر وتنضم إلى المسيرة، وفي الساحة الشاسعة صرنا نرى الرئيس جنبلاط من بعيد، ونحن على قلق في بحر من الناس، وقد تخطت التظاهرة ساحة الشهداء نحو شارع الجميزه، ونحن نسير فيها بغير وعي، حتى انعطفت نحو شارع مارون النقاش حيث مركز الحزب التقدمي الإشتراكي، فاطمأنينا..
عند بوابة الحديقة الصغيرة حيث مركز الحزب ترجل الرئيس وصعد الدرج، وسط هدير الهتاف، وعلى رأس الدرج توقف واستدار نحو الجماهير المحتشدة ورفع يديه إلى صدره علامة الشكر.
وحين دخلت مكتبه وجدته جالساً باسطاً يديه صامتاً، فلما نظر إليّ سألني: وين الشيخ بونايف؟
كان الرئيس يعرف ما حدث، فهو شاهد الشيخ بونايف حين ضرب الضابط بعصاه، لكنه لم يعد يراه بعد ذلك.
ولم يمضِ وقت طويل حتى وصل الشيخ بونايف، وتوجه مباشرة إلى مكتب الرئيس، ودخل مبتسماً، متواضعاً وعباءته مطوية على زنده، وعصاه في يده، فبادره الرئيس قائلاً: شو عملت، يا شيخ بونايف؟ وببساطة وعفوية قال الشيخ بصوت خافت: الله يسامحني..
وقد عبر كمال جنبلاط عن شعوره في ذلك اليوم فكتب فيما بعد في "الأنباء": "سارت بنا (التظاهرة) كالعاصفة الدافعة الزاخرة التي لا يقف في وجهها شيء، وكأنها نفخ البعث في بوق يوم الميعاد... وكانت غلبة اليقين تمشي في ركابنا كأننا وجه القدرة الغالبة وإرادة الظفر ذاته...".
وأضاف: "لم أتمالك شخصياً، لروعة المشهد، من الشعور برجة عاطفية انبعثت من اعماقي، وأوشكت أن أفقد توازني وأبكي، أنا أيضاً، لما كنت أراقبه في ذهول بصيرتي السابحة فوق المناكب والهياكل البشرية المتحولة، والأيدي والرؤوس الصاخبة من ثقة هذا الشعب العظيمة بنا، وما له من أمل لا يحد بالغد القريب...".
تلك التظاهرة في ذلك اليوم زعزعت قواعد عهد الرئيس بشارة الخوري، وقد اعترف الرئيس الشيخ نفسه، بما حدث، وكتب ذلك شهادة على الحقيقة في مذكراته "حقائق لبنانية" التي نشرت بعد استقالته، اذ عاتب كمال جنبلاط على مقاله "جاء بهم الأجنبي فليذهب بهم الشعب". وكشف الشيخ بشارة الخوري في مذكراته أنه استدعى الجنرال فؤاد شهاب في تلك الفترة لمقابلته، وأفضى اليه باشمئزازه من "قلة الإنصاف وقلة الوفاء" التي يراها لدى المعارضة ولدى بعض الموالين أيضاً". وقال للجنرال شهاب "صارت موضة عند كل طمّاع، أو مستاء، أو معارض، أن يحمّل الرئيس شخصياً وزر الآخرين". واعترف الشيخ بشارة الخوري بأن "شؤوناً كثيرة" كان يجريها بعضهم دون معرفته.
وتابع الشيخ شكواه للجنرال شهاب من الموالين اللاهين بشؤونهم، ومن "الأقرباء والأبناء المتناحرين في ما بينهم... والرئاسة تدفع الثمن؟!".
وقد اعترف الرئيس الشيخ "بأن لبنان أصبحت صورته قاتمة وسوداء في عيون الأجانب".
وعلى أثر ذلك فاجأ الرئيس الشيخ الجنرال شهاب بمصارحته أنه يؤثر الإحتجاب عن المسرح السياسي!
لكن الرئيس الشيخ بشارة لم يلتزم فيما بعد بما صرح به لقائد الجيش فهو تمسك بمنصب الرئاسة حتى آخر دقيقة من قدرته على الصمود في وجه الثورة السلمية التي قامت ضده بقيادة "الجبهة الإشتراكية الوطنية" التي كان قائدها كمال جنبلاط في ذلك الزمن.
بل إن الرئيس الشيخ بشارة الذي جدد عهده الأول الذي دام تسع سنوات (1943-1952) لم يسلم الرئاسة الا بعد ثورة شعبية مدنية كان قائدها وموجهها كمال جنبلاط.
وللتاريخ فقط، أي  للأجيال الطالعة من عقود النصف الثاني من القرن الماضي، بدءاً من العام 1952، تستعاد صفحات من تاريخ لبنان الحديث، لتكتشف هذه الأجيال وطنها وشعبها، ومستقبلها.
وللتاريخ يستعاد نداء "دير القمر" إلى "بيت الدين" بصوت كمال جنبلاط يوم 17 آب 1952: "أيها الرئيس... اصلح أو اعتزل".
وللتاريخ يستعاد أيضاً إتصال قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب بكمال جنبلاط مع غسق فجر يوم 18 أيلول 1952 وهو في المختارة ليقول له:
"كمال بيك... صبحك بالخير... أود أن أبلغك أن فخامة الرئيس قدم استقالته... وأنا أكلمك الآن من قصر الرئاسة في عاليه".
للحظات ساد الصمت على الخط المفتوح بين عاليه والمختارة. ثم سمع الجنرال شهاب صوت كمال جنبلاط يسأل:
نهائياً؟..
وكان جواب الجنرال: نعم... نهائياً...
وأضاف الجنرال: لقد وضعني فخامته في موقف حرج جداً... إذ أصر عليّ أن أترأس حكومة مصغرة مؤقتة لتشرف على إنتخاب رئيس الجمهورية الجديد.
فقال جنبلاط: هذا يوم عظيم جداً في تاريخ لبنان، وعلينا جميعاً تقع مسؤولية الإنتقال بالبلاد فوراً إلى حكم جديد يستحقه الشعب.
وظهر ذلك اليوم (18 أيلول 1952) تجددت تظاهرة بيروت التي جرت لكمال جنبلاط يوم 4 حزيران الذي مضى ولكن على نطاق أوسع وأعم.
فعند وصوله إلى مدخل "فرن الشباك" كانت الجماهير تملأ الشوارع ابتهاجاً باستقالة رئيس الجمهورية، وقد أحاط جمهور بسيارة جنبلاط، ففتحوا أبوابها وألزموه بالترجل منها، ثم رفعوه عالياً، وساروا به مرددين شعارات وطنية. واستمرت التظاهرة تكبر عبر مسيرتها إلى ساحة الشهداء حيث كانت قد تحولت "بحيرة بشرية" حسب وصفها في إحدى الصحف، وفي ذلك اليوم تكرر مشهد 4 حزيران ولكن على نطاق أوسع، فقد صعد كمال جنبلاط الدرج إلى مركز الحزب في شارع مارون النقاش مرفوعاً على سواعد الجماهير.
وللتاريخ أيضاً، لا بد من تسجيل استقباله في غرفة مجلس القيادة بحضور أقطاب "الجبهة الإشتراكية الوطنية".
جلس كمال جنبلاط إلى رأس الطاولة المستطيلة. للحظات ظل صامتاً، كان مشدوداً بقامته إلى فوق، وبأصابعه أخذ يفتل قلم رصاص ونظراته مركزة على ورقة بيضاء أمامه: ... وبسرعة كسر كميل شمعون الصمت المتوتر، وتوجه إلى كمال جنبلاط قائلاً: "مبروك فخامة الرئيس..."
... وكما لو أنه كان ساهياً في تلك اللحظات.. أو  كما لو أن المباركة التي جاءته من الرجل الساحر قد فاجأته، رفع كمال جنبلاط رأسه، واتسعت عيناه لمعاناً، وزمّ شفتيه بإبتسامة معبرة، ثم قال على مهل، كلمة..كلمة..
"أنا الرئيس... وغيري راح يكون صاحب الفخامة" وساد الصمت في القاعة.. أما في الخارج فكان الضجيج، والهتاف يتعالى: جنبلاط.. جنبلاط..
التاريخ وحده حافظ الحقوق..