Advertise here

عندما أسقطت بور سعيد رئيس وزراء بريطانيا!

22 كانون الثاني 2021 13:07:25

"باسم الأمة... تؤمّم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية، وينتقل إلى الدولة جميع ما لها من أموال وحقوق، وما عليها من التزامات..." هكذا هزّ الرئيس المصري، والقائد العربي الذائع الصيت، جمال عبد الناصر، العالم بإعلانه تأميم شركة قناة السويس مساء يوم 26 تموز 1956، ما أدّى إلى حربٍ عكست التحوّلات الدولية التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية. 

مع تَبَوُّؤ جمال عبد الناصر - رئيس تنظيم الضباط الأحرار، وقائد ثورة 23 يوليو التي أسقطت الحكم الملكي في مصر - رئاسة الجمهورية المصرية، وضع عدداً من الأهداف الاقتصادية والسياسية نصب عينيه. وكان بناء السد العالي على نهر النيل في منطقة أسوان على رأس هذه الأهداف، لما له من تأثير هائل على إنماء القطاعين الزراعي والصناعي، وإنتاج الكهرباء، ومنع فيضان النيل. وقد قدمت الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة المساعدات المالية المطلوبة لبناء السد في بداية الأمر، لمحاولة استمالة مصر إلى المعسكر الرأسمالي، ومواجهة المد الشيوعي في الشرق الأوسط.

غير أن هذه العلاقة المتينة بين مصر وأقطاب التحالف الغربي لم تدم طويلاً، وأخذت تتدهور بعد اتخاذ ناصر عدة خطوات أثبتت استقلالية قراره، كالاعتراف بدولة الصين الشعبية (الشيوعية) خلافاً لرغبة المعسكر الغربي، وعقدِه صفقة تسليح ضخمة مع الاتحاد السوفييتي عبر تشيكوسلوفاكيا، وتعزيز العلاقات المصرية - السوفييتية.

 هذه الإجراءات وسواها حملت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا على تعليق الدعم المالي المخصّص لبناء سد أسوان. (تجدر ال)إشارة إلى أن رئيس الوزراء البريطاني، أنطوني إيدن، كان يكنُّ العداء الشديد لناصر بسبب سياساته المناهضة للاستعمار، ومجابهته للأنظمة العربية الموالية للبريطانيين ولحلف بغداد المدعوم منه، ولأن ثورة 23 يوليو بقيادة عبد الناصر أدّت إلى جلاء الجيش البريطاني من مصر لأول مرة منذ عقود. من جهتهم، نقم الفرنسيون على الرئيس المصري الشاب بسبب دعمه لحركات التحرّر في الجزائر مادياً وإعلامياً، حيث كانت فرنسا تمعن في ارتكاب المجازر وقمع الاحتجاجات.

 أما إسرائيل التي ذاقت الأمرّين من جرّاء الغارات الفدائية المدعومة من قِبل عبد الناصر، فقد رأت فيه خطراً وجودياً يهدّد كيانها الحديث النشأة.

وبعد أن أوصد الغرب جميع أبوابه في وجه ناصر المصمّم على تأمين الموارد المالية الضرورية لبناء السد، وجد نفسه مضطراً للمغامرة باتخاذ قرار بإعلان تأميم شركة قناة السويس العالمية، المملوكة أساساً من الحكومتين البريطانية والفرنسية، وذلك للاستفادة من إيراداتها المالية وتمويل مشروع بناء السد. وكانت مصر قد فرضت حظراً على عبور السفن من وإلى إسرائيل في قناة السويس وخليج العقبة، موجّهةً بذلك ضربة اقتصادية قاسية للإسرائيليين. فأجمعت الدول الأكثر تضرراً من هذا الإعلان، فرنسا وبريطانيا وإسرائيل، على ضرورة الإطاحة بعبد الناصر بعملية عسكرية، بعد فشل المؤامرات المخابراتية في إتمام المهمة، وراهنت على الدعم الأميركي لهذه العملية. قضت الخطة المتفق عليها، "بروتوكول سيفر"، باجتياح القوات الإسرائيلية لشبه جزيرة سيناء ما سيستدعي تصدّي الجيش المصري لها، فتتدخل القوات الجوية والبحرية البريطانية والفرنسية بحجة الردع بين المتقاتلين، وتأمين الملاحة في قناة السويس.

دخل العدوان الثلاثي حيّز التنفيذ في 29 تشرين الأول 1956، حين غزت القوات الإسرائيلية شبه جزيرة سيناء ووصلت إلى مشارف قناة السويس، فأصدرت فرنسا وبريطانيا تحذيراً تطالبان فيه بوقف القتال، وإنزال قواتهما لاحتلال مدن القناة وحمايتها. وعندما رفض عبد الناصر الانصياع شنّ التحالف الإنكليزي - الفرنسي غارات جوية على المدن المصرية، ونزل المظليّون في مدينة بور سعيد المحاذية للقناة. وبسبب تقهقر الجيش المصري بنتيجة الفساد المستشري في قيادته، وعجزه عن مواجهة الجيوش الجبارة المهاجمة، أعلن عبد الناصر المقاومة الشعبية وشرع بتوزيع الأسلحة على الشعب المصري للتصدي للعدوان، كما أقفل قناة السويس، ومنع عبور جميع السفن. وقد استجاب الشعب لدعوات قائده، فأبدى أهالي بور سعيد شجاعة منقطعة النظير في الدفاع عن أرضهم وصد الغزاة.

وبخلاف توقعات المعتدين، استنكرت الولايات المتحدة العدوان على مصر، وأطلق الاتحاد السوفييتي إنذاراً شديد اللهجة لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل وهدّدها باستخدام الأسلحة النووية في حالة استمرار العدوان. أمّا منظمة الأمم المتحدة فطالبت بوقف الحرب على مصر فوراً. 

أمام الضغط الدولي والصمود الشعبي المصري، اضطر الثلاثي المعتدي إلى وقف العدوان وسحب قواته تباعاً. وهكذا خرجت مصر منتصرةً من هذه الحرب التي كلّفتها آلاف الشهداء والجرحى بعد اعتراف الأمم المتحدة بالسيادة المصرية على قناة السويس، وأصبح عبد الناصر الزعيم العربي الأقوى والأكثر جماهيرية، وملهم الثوار وسائر الشعوب المناهضة للاستعمار. أما رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن، عدو ناصر اللدود فأعلن استقالة حكومته بنتيجة الفشل الديبلوماسي والسياسي الذريع، والشرخ السياسي الداخلي الكبير، اللذان تسببت بهما حربه على الشعب المصري.

سطّرت هذه الحرب نهاية النظام العالمي السائد قبيل الحرب العالمية الثانية، والذي أعطى الدول الاستعمارية نفوذاً لا- متناهياً في الدول الخاضعة لها، وأرست دعائم النظام الجديد القائم على هيمنة العملاقين الأميركي والسوفييتي على العالم.

 كم نحن بحاجة اليوم في عالمنا العربي إلى شخصيةٍ قيادية فذّة بحجم جمال عبد الناصر، وعزيمةٍ شعبية قاهرة كعزيمة الشعب المصري، لضمان استقلالية القرار العربي ودحر كل عدوان، سياسياً كان أم عسكرياً، ووضع حدٍ للتدخلات الخارجية التي فتّتت العالم العربي وجعلت منه ساحةً للصراعات الإقليمية والدولية.

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".