Advertise here

إنقاذ الرئاسة أو إنقاذ الرئيس

05 كانون الثاني 2021 10:29:00

لا أخطر من المحاججة الطائفية في لبنان. رغم أنَّها تتخفَّى في معظم نقاشاتنا السياسية بلطفٍ وطني شديد، فإنَّها في النهاية تستبطن عنفاً تاريخياً مكبوتاً، وتقود إلى مآلٍ واحد هو نزاع الهوية والخيارات.


تاريخياً قام لبنان على مزيج من الانتماءات البدائية والاستنادات الخارجية التي مُورست من الجميع باحتراف بديع. الصراعات صنعتها حاجات المجموعات اللبنانية وفائض قوتها أو ضعفها، والتسويات صنعتها أيضاً حاجات المجموعات اللبنانية وتحينها للفرص الإقليمية أو الدولية.


في تاريخنا غير البعيد، دارت الصراعات مدار علاقات المجموعات اللبنانية بالسلطنة العثمانية وبالانتداب الفرنسي بعدها.


التاريخ اللبناني مضطربٌ، دمويٌّ وصاخبٌ، لم تنسج فيه العلاقات المحلية بعيداً عن الصلات الخارجية. في بدايات صعود السلطنة العثمانية استفاد المسيحيون من المعاهدة التي وقعت بين الملك الفرنسي فرنسوا الأول وبين السلطان العثماني سليمان القانوني في عام 1535. الأمراء المعنيون الدروز تحالفوا مع السلطنة عندما التفت العثمانيون إلى محاولات الدولة الصفوية الوصل بين شيعة البقاع وشيعة الجنوب، فأوكلوا إليهم مهمة قطع هذا التواصل في مشغرة، وغفروا لهم انحيازهم السابق إلى جانب المماليك؛ لا بل تمردهم على السلطنة دعماً للزعيم السني محمد بن الحنش في بدايات سيطرتها على بلاد الشام.


في زمن ضعف السلطنة لم يفلح الفرنسيون في الجمع بين مصالح الموارنة ومصالح الدروز، فاختاروا مرغمين الجانب الماروني، ورسموا صورة لبنان الكبير وفق تصورات هؤلاء. وعندما فشل البريطانيون في إبعاد الموارنة عن الفرنسيين يمَّموا وجههم شطرَ الدروز، وعقدوا تفاهماً معهم. وفي مرحلة لاحقة جاءت روسيا لحماية المسيحيين الأرثوذوكس، وحاولت إبقاءهم بمنأى عن الصراع الدرزي الماروني، بينما سعت النمسا لتقديم نفسها حامية للكاثوليك بديلاً من فرنسا.


مطالبات العدالة والتحرر كانت دوماً تنتهي إلى صدام طائفي، ثم إعادة صياغة للواقع المحلي على أساس التوازنات المحلية الناشئة واستناداتها الخارجية.


إيران هي اليوم الدولة التي تدور مدارها الأحداث في لبنان، هي الأقوى حضوراً، وهي التي تتوزَّع حولها الانتماءات، تحالفاً معلناً أو توجساً خفياً أو عداوة مكتومة.


قناصلُ كثرٌ لدول عديدة ومبادرات دائمة؛ لكن إيران هي الأقوى، وبنية الحكم في لبنان هي لمصلحتها إذا لم تكن حليفتها.


عهد الرئيس ميشال عون إشكالي بالمعنى الداخلي، والتسوية التي حملته إلى سدة الرئاسة أكثر إشكالية، وتبدو في قطيعة مع الإدراك الحقيقي لتاريخ لبنان الذي لم يحتمل استقراره الداخلي في يوم من الأيام خيارات جموحة ومتطرفة بهذا القدر، فالرجل يأتي من تاريخ لبنان المضطرب لا الساكن، من تاريخه لا من حاضره أو مستقبله، من نزاعاته لا من تسوياته، من توتراته لا من سلمه وإن كان عابراً. هو مترع بكل معاني الانقسام اللبناني السابقة للمصالحة اللبنانية. في الداخل يصنف نفسه وارثاً للصراعات التاريخية وحامل إرثها ومشروعها، وما تعبيرات: «الرئيس القوي» و«المسيحي القوي» و«العهد القوي» و«تحالف الأقوياء»، وكل أدبيات نزق القوة والتحدي، إلا تعبير واهم عن هذا الفهم التاريخي لنفسه ولدوره وتياره بمواجهة الآخرين في لبنان، وإعلاء راية المواجهة مع بقية المجموعات اللبنانية التي تتحصَّنُ برأيه في وزنها الديمغرافي، أو قوتها السياسية، أو مكاسبها نتيجة الحرب واتفاق الطائف الذي أنهى النظام السابق وأسبقياتِه السياسية لمصلحة المسيحيين في السياسة والاقتصاد والعلاقات الخارجية، وفق فهمه.


في المعنى الخارجي، ينبثق عون من صلب نظرية تحالف الأقليات، وهي للمفارقة فكرة ذات منشأ لبناني - صهيوني مشترك، صاغها ناشطو القسم السياسي في المؤسسة الصهيونية، وأبرزهم إلياهو أبشتاين مع قلة قليلة من الناشطين اللبنانيين المذعورين من تنامي أعداد المسلمين اللبنانيين ونفوذهم وطموحاتهم، على عكس أكثرية نخبوية مسيحية متنورة، صاغت فكرة القومية العربية في نهايات القرن التاسع عشر، وبشرت بها في عدد من أقطار العرب، وكانت المعادلة بسيطة في عام 1919 كما اقترحها هؤلاء على رئيس المنظمة الصهيونية العالمية حينها حاييم وايزمان: لبنان للمسيحيين، وسوريا للمسلمين، وفلسطين لليهود (لورا أيزنبرغ - عدو عدوي). ولو عاش هؤلاء لزماننا هذا لأضافوا سوريا للعلويين، كما يحصل اليوم بدعم من إيران ودول أخرى، فاكتمل حينها قوس حلف الأقليات.


عهد الرئيس ميشال عون ألغى المسافة الفاصلة بين «الدولة اللبنانية» وبين سياسته الجموحة وسياسات ومصالح حلفائه، فأصبحت الدولة اللبنانية شريكة ومسؤولة عن كل أفعاله وأفعال حلفائه، من سوريا إلى العراق إلى اليمن. حتى التمرين النظري الذي كان يقوم به اللبنانيون حول الاستراتيجية الدفاعية، أي نقاش سلاح «حزب الله» أهمله عون وتياره لمصلحة مزيد من المكاسب الداخلية، ومنافع السياسة والإدارة والاقتصاد والدستور الذي تعرض ويتعرض لانتهاكات متمادية، ليس بمعنى قدسية الدستور التي لم تكن يوماً هاجساً لبنانياً مقيماً؛ بل بمعنى التوازنات اللبنانية.


التسوية باتت صعبة في ظل حكم يعتبر العناد فضيلة وطنية كبرى، والتجارب المكلفة تجعل الحل يأتي لزاماً من داخل المجموعات اللبنانية بقناعتها أو اضطرارها، وليس من خارجها وفرضاً عليها، وطي هذه الصفحة السوداء من تاريخ لبنان التي دمَّرت خلالها علاقات لبنان العربية والدولية، وبلغ التأزم الطائفي أقصى مداه، وانهار الاقتصاد اللبناني فوق رؤوس المواطنين. طي هذه الصفحة هو مسؤولية مسيحية بالدرجة الأولى، وهذا ما يدركه رأس الكنيسة المارونية البطريرك الراعي في قلقه المحق على الكيان وأهله، ومناشداته وتقريعه اليومي للسياسيين ومواقف القوى المسيحية الأساسية المطالبة بالتغيير؛ لا سيما ذلك الإلحاح المحموم على الانتخابات النيابية المبكرة التي تحتاج أن تكتمل وطنياً، وأن تؤدي إلى تجديد شرعية النظام السياسي اللبناني المأزوم، وأن تنطلق من نزاهة وطنية تليق بالبطريرك، وتبدأ بانتخابات رئاسية مبكرة وانتخابات نيابية مبكرة تعيد التوازن الداخلي، وتطلق مسار مصالحة السياسة مع المجتمع، وتصلح الضرر الفادح في علاقات لبنان العربية والدولية بعيداً عن التوريات السياسية تحت عنوان اللامركزية الإدارية، وهو تعبير لبناني لطيف عن مدى الذعر الداخلي بين اللبنانيين.


تاريخنا حافل بالعثرات الوطنية؛ لكنه لا يخلو من تجارب عاقلة ومدركة. الرئيس اللبناني الأسبق والأجدر فؤاد شهاب الذي انتُخب في أعقاب الثورة الشعبية اللبنانية التي قادها المعلم كمال جنبلاط ضد حكم الرئيس كميل شمعون في عام 1958، استقال بعد سنتين من حكمه، بعد إجرائه الانتخابات النيابية في عام 1960؛ حيث اعتبر أنه أدى مهمته التي انتُخب لأجلها، وإن رفضت استقالته في حينها رغبة في مزيد من عهده الإصلاحي والتصالحي. والرئيس الأسبق سليمان فرنجية عندما أدرك استعصاء الحكم عليه في ظل الظروف التي حكمت البلاد في عام 1976، وافق على إجراء انتخابات مبكرة حملت الرئيس إلياس سركيس إلى سدة الرئاسة قبل ستة أشهر من الموعد الدستوري، وإن تم ذلك في سياق إقليمي ودولي؛ لكننا اليوم لا نبدو بإزاء ترفع شبيه أو واقعية مماثلة من قبل الرئيس الحالي.


وفي روايتنا اللبنانية غير البعيدة، قاد تمسك البطريركية المارونية في عام 1841 بالأمير بشير الثالث لاعتبارات طائفية واجتماعية، إلى سقوط الأمير؛ لكنه قاد أيضاً إلى دفن الإمارة (المارونية في ذلك الوقت) لمصلحة نظام القائمقاميتين، وما تلاه من أهوال وصراعات وتغييرات في موازين الحكم.
نحن أمام خيار من اثنين: إما إنقاذ الرئيس، وإما إنقاذ الرئاسة ونظامنا السياسي الحالي برمته من مؤتمر تأسيسي يلوح في ذهن البعض.