Advertise here

التّخبّط الاقتصاديّ

02 كانون الثاني 2021 15:43:31

الإنسان بطبعه كائن اجتماعيّ يتطلّع إلى المستقبل ليؤمّن استقراره واستمراره وليحدّد ميزانه الاقتصاديّ كي لا يغرق في المديونيّة والإفراط والاستنزاف ما يجرّه إلى التّهلكة فيلاقي سوء المصير. هذا ينطبق أيضًا على الدّول الصّغيرة والكبيرة والمجتمعات والعالم أجمع. حيث نرى العالم كلّه اليوم يتخبّط في بحر من الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة من جرّاء تفاقم الضّائقة الاقتصاديّة  الشّائكة. فما هي العوامل المسبّبة لهذه الضّائقة الّتي تثقل كاهل المجتمعات والعالم على السّواء؟ وكيف يمكننا وقف هذا الاستنزاف كيلا يُجرّ العالم إلى مستنقع آسن خطير؟

إنّ الميزان الاقتصاديّ العالميّ اليوم في انكسار، ما جعل الخبراء في المجال الاقتصاديّ يعملون على تأمين خطط بديلة وتغيير معاهدات واتّفاقات عالميّة للتّخفيف من الهبوط الاقتصاديّ العالميّ الّذي ساهم في الرّكود التّجاريّ وكساد السّلع وسحق المهارات الفرديّة والمجتمعيّة وضياع الرّساميل وتلاشي المداخيل وتفتيت الطّبقات الوسطى. فغدا العالم مؤلّفًا من طبقتين اجتماعيّتين: طبقة غنيّة غنى فاحشًا غير مشروع، وطبقة فقيرة معدَمة تأكل من جِلدها. هذا الميزان التّجاريّ الهابط بدا واضحًا في حركة المصارف عالميًّا ومحلّيًّا وحركة الأسواق وسعر الصّرف والتّلاعب بالعملة المحلّيّة والعالميّة وخسارة أرصدة المتموّلين الصّغيرة والكبيرة، وتفشّي السّوق السّوداء من دون مراقبة ومحاسبة واستفحال الغلاء بشكلٍ جنونيّ دونما رحمة، وتدفّق مزاريب الهدر والفساد والتّهريب وتخبّط العالم في بحرٍ من الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة كانتشار السّرقة والنّهب والقتل والمديونيّة والتّفاوت الطّبقيّ والتّسوّل والاضطهاد السّياسيّ واستقواء القويّ على الضّعيف، وزعزعة أركان المجتمع برمّته، وغرقه في بحر تأكل الحيتان فيه الأسماك الصّغيرة، بحر يشتّت ويُفسد ويُفرّق المجتمعات عن بعضها ويهدم أسّها، ويتمادى الأغنياء في فرض سلطتهم على الفقراء والمحتاجين، كما تتجاذب السّياسة أواصر المجتمع فتكثر المحسوبيّات والنّزاعات وتغلب المصالح الشّخصيّة على المصالح الوطنيّة. فتؤثّر سلبًا في النّفوس والأهداف العامّة وتسيطر الأنانيّة على الأفراد والأمم والدّول والعالم أجمع ما يسبّب الحروب والانهيار في الميزان التّجاريّ حيث يعاني العالم أجمع ضائقة ماليّة لا مناص منها. فينخفض الصّادر المحليّ  ويتغلّب عليه الوارد العالميّ ما تضطرّ الدّول إلى الاستدانة من غيرها وتراكم الفوائد الماليّة كثيرًا ما يؤدّي إلى إفلاس الدّول المستقرِضة ونفاذ احتياطها.  

ها هو العالم أجمع اليوم يصارع ليثبت قوّته وجبروته وهيمنته وكيانه. فالتّاريخ شاهد على ما ذكر أعلاه: الاتّحاد السّوفياتيّ تفتّت إلى دول وتفرّق، وحائط برلين ألغى المواثيق بين الدّول، وأصبحت القوّة الغالبة لأميركا الّتي تملك نصف الإنفاق العسكريّ في العالم وتملك العملة الصّعبة أي الدّولار الأميركيّ الّذي يتحكّم بميزان العالم الاقتصاديّ. هذا التّناحر نلمس نتائجه في الشّرق الأوسط إذ تحاول الصّين إثبات ذاتها وعملتها وإنتاجها عالميًّا. فمن أشكال هذه الهيمنة العالميّة بين العملاقين أميركا وروسيا التّسارع في التّسلّح وصناعة الأسلحة والمتفجّرات، ما يقلق البشريّة ويهدّد أمنها القوميّ وبقاءها وماءها ومستقبلها، ويرهق كاهل موازنات الدّول ويعيق التّنمية الاقتصاديّة ويهدر موارد المجتمعات الأساسيّة ويضاعف مديونيّة الدّول النّامية الفقيرة ويسحق العالم الثّالث ويشكّل خطرًا على الأجيال القادمة. 

أضف إلى ذلك وباء كورونا الذي يضرب المسنّين وأصحاب المناعة الضّعيفة، اضافة لعدم الاكتفاء الغذائيّ، ما معناه أنّ الأمن الغذائيّ بات بخطر. لهذا التّخبّط القائم عوامل عدّة كما أسلفنا منها: ساسيّة واستراتيجيّة واجتماعيّة واقتصاديّة. 

فالعوامل السّياسيّة تشمل الوضع السّياسيّ الرّاهن في بلد ما وَفق طبيعة نظام الحكم ودرجة الاستقرار السّياسيّ أو تفلّته ما يسبّب استقرارًا أو حروبًا أهليّة ومحلّيّة. أمّا العوامل الاستراتيجيّة فتعني التّخوّف من نشوب حرب إقليميّة نتيجة التّجاذب السّياسيّ المحلّيّ والمناطقيّ والعالميّ وحماية مصالح الدّول المتناحِرة أو المتحالِفة. أمّا العوامل الاقتصاديّة فتظهر بتوافر الموارد الاقتصاديّة أو انعدامها وبتزايد النّمو الاقتصاديّ أو انهياره. ذلك النّمو الاقتصاديّ قد يكون سببًا للإنفاق العسكريّ واقتناء السّلاح في وجه من الوجوه. ومن العوامل الاقتصاديّة أيضًا توافر الصّرف الأجنبيّ والتّلاعب بالعملة المحلّيّة أو العالميّة، ما يضعف القدرات الاقتصاديّة ويسحق ذوي الدّخل المحدود وأصحاب الرّساميل  الصّغيرة والمتوسّطة، ويهدّد التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة على السّواء. كما يحرم المجتمع من الثّروة الوطنيّة ويحرم القطاع التّربويّ مقوّماته، والقطاع الصّحّيّ قدراته. ويحرم قطاعات الإنتاج المدنيّ من  الإبداع، ويعيق التّقدّم البشريّ ويحوّل الموارد البشريّة والتّنمويّة إلى أغراض غير منتجة. ما يغرق البلد في أزمة مديونيّة خارجيّة لا سيّما البلدان النّامية الّتي لا تقوى على تحمّل أعباء اقتصاديّة مرهقة للأجيال الحالية والأجيال القادمة.

أمّا العوامل الاجتماعيّة فحدّث بلا حرج أهمّها: انعدام الطّبقة الوسطى وسحقها، وتحوّل الشّعوب إلى طبقة كادحة فقيرة تخدم الطّبقة الإقطاعيّة المستبدّة الباطشة بالفقراء والمساكين والبؤساء، ما يساهم في انتشار شبح البطالة والفقر والجهل والضّيق والسّرقة والقتل والدّمار والخراب فتبطش بأواصر المجتمعات آفات خُلقيّة وأمراض نفسيّة تعثّر تقدّمها وتشلّ حركتها.

آهٍ! ما أحوجنا إلى مشاريع تطوّر البنى التّحتيّة المادّيّة والمعنويّة للدّول الكبيرة والصّغيرة. فهل سيساهم التّسلّح والتّخبّط الاقتصاديّ والوباء العالميّ في انهيار العالم اقتصاديًّا أم سيتخلّص العالم من أتونٍ مشتعل يحرق مَن و ما فيه قبل فوات الأوان؟!

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".