وُدّعت بقرع جميع التنك، وصبّ جميع اللعنات، واستُعيدت لطردها جميع الأقنعة المفزعة وساحرات شكسبير وفرق النواح. الجميع يريد التأكد أنه لم يبقَ منها شيء مختفياً بين الركام، أو مختلساً خلف الوقاحات. لقد كانت سنة الجنون وناقلي اللعنات وحمَلة الأوبئة المتناسلة. سنة يصعب العثور على مثيلها حتى في التوراة وتنبؤاتها، ليس فيها سوى الغضب والنقمة والثأر والسطو على الآخرين وحقوقهم واحلامهم وكل هناءة في حياتهم.
يطل شمشون من خلف الاعمدة المتهدمة فوق رأسه مبتهجاً بأنه استطاع أن يهدّم كل شيء. فمن بعده العدم. وسوف يخفف لويس الرابع عشر من تلك القاعدة العدمية مكتفياً بأن يكون من بعده الطوفان. والغريب انه في هذه المساحة التي تنتشر وتتراكم فيها السيوف الصَدِئة والخناجر المسمومة، لا يظهر إلا في البعيد من ينادي على الناس بشيء من الوعي، وقليل من الاحتشام، وقليل من اللياقات الوطنية. ظن ايمانويل ماكرون بأن ما تجمّع لديه من رساميل لبنانية يخوّله التوسط بين اهل المدينة التي دمّرها 4 آب. فمن هذه الرساميل، الأدبية طبعاً، ان فرنسا استضافت رئيس الجمهورية يوم كان منفياً هو وأركانه ومناضلوه طوال 15 عاماً. وكان ذلك وعداً تاريخياً لا علاقة له بالهوية السياسية لصاحب الاليزيه سواء كان اشتراكياً أم ديغولياً. وعلى رغم ما شاب علاقة فرنسا الاستعمارية مع بعض الدول والشعوب، فإن علاقتها مع لبنان ظلت بلا شوائب كبرى. حتى الاستقلال اصبح جاهزاً بعد بضعة ايام مُسقعة في قلعة راشيا. وقد جاء الجنرال كاترو يومها متوسلاً رجال الاستقلال ان يتمهلوا قليلاً، لكنه نزل عند رغباتهم عندما أصروا على الرفض. بعد ذلك قامت بين البلدين علاقة من التعاون والتبادل الحضاري والموقف الانساني، الذي وصل الى ذروته خلال الحرب الأهلية عندما فتحت فرنسا ابوابها لجميع اللبنانيين بصرف النظر عن غربان الطوائف التي يحملونها على اكتافهم.
لكن يبدو ان ما أخذه المسيو ماكرون في الاعتبار لم يعد يشكل اهمية كبرى عند الفريق اللبناني المتنقل ابداً بين التيّارات والأقاليم والاحلام الشخصية. وما سُمّي "المبادرة الفرنسية" ظلّ مبادرة في فرنسا، بينما مضى سياسيون في بيروت يمارسون عاداتهم المألوفة. ما من نداء من نداءات العالم كان له وقعٌ أو صدى أو اعتبار. لا فرنسا ولا الأمم المتحدة ولا بريطانيا ولا اوروبا ولا الولايات المتحدة التي وجدت نفسها في مواجهة فردية مع رئيس الحزب المسيحي الأكبر، ومنقذ #مسيحيي #الشرق.
لم يصدّق اللبنانيون هذا السلوك الشمشوني، فيما هم يتلوون خوفاً وقلقاً وعزلة ووحدة، لا اصدقاء فيها ولا أخوّة وإنما مجرد عدوانيات محلية معلنة وعارية وبلا اي تردد. في الماضي عندما كانت الامور تسوء الى هذا الحد، كانت #بكركي تتدخل استناداً الى رأس مالها التاريخي، ودورها الحارس، في ردع السياسيين عن ركوب اعاصير الجرف والانجراف. ولا يصطدم دور بكركي في مثل هذه المحن بما نسميه مبدئياً، الدستور. فهي مؤتمنة ليس على النص الذي يُحال عند الحاجة الى السحرة والبهلوانيين، وإنما على الجوهر الذي تستحيل المغامرة بأي جزءٍ من روحه.
تدخّل البطريرك الراعي في قضية كبرى هي مصير لبنان، فوجد نفسه هو وصرحه غارقين في مستنقعات الثأر والسيوف المشهورة وصُراخ الغلبة وزعيق الهواة الذين غالباً ما يحْرقون سكينة الشعوب وسلامة البلدان ومستقبل الناس.
لم يكتفِ البطريرك الراعي برمزية بكركي، بل جنّد لذلك ايضاً رمزية الفاتيكان ونفوذها، علّ اللبنانيين في اللحظة الاخيرة يحضرون معاً قدّاس الميلاد ويسمعون صوت البشارة. لكن أجراس الميلاد مضت تقرع وحيدة في صمت وفي أسىً. فالذين يرفعون راية انقاذ مسيحيي الشرق، قد يكونون ايضاً في معرض اقامة بكركي خاصة بهم. ولن تكون هذه المرة الأولى. فما دام الغرور هو الوصيّ العليّ على شؤون لبنان وكرامات اهله وعزة اللبنانيين، فإن هذا المنطق المدمّر سوف يظل قاعدة السلطة وطبع المتسلط. إن التلحّف بالأسباب والدواعي الخارجية، إهانة ومذلة اكبر من الواقع الحقيقي، وهو ان الصغارات المحلية وحدها تُشرّع الابواب امام وطنية العرض والطلب، والإغراء والإغواء. لَيت زعماء مسيحيي الشرق في هذا الوطن المسلوب، يطلون لحظة على نظرة مسيحيي الشرق اليهم. لقد جاء البابا فرنسيس الأول قبل اشهر الى ابو ظبي مفتتحاً وصول اول حبر من احبار الكنيسة الى الجزيرة العربية ومهد الرسالة. وخلال ايام يسافر الى بغداد التي شهدت منذ العشرينات اضطهادات كثيرة للمسيحيين وموجات تهجير. ولِذَوي الهالات التي مثل هالَتِه، أن يتحدثوا باسم المسيحيين. ف#المسيحية، خصوصاً في الشرق وارض بولس، ليست مجموعة حقائب ملوّنة ولا كودات سريّة. ولا هي مظهريات فارغة تنتهي بانتهاء الحفل. ولا هي تصريح يُلقى هنا أو هناك كلما اقتضت الحاجة.
المسيحية في الشرق هي من يمثل رسالتها كمثل ذلك الامتحان النبيل الذي تعيشه مصر كل يوم حيث يتذكر 15 مليون قبطي هروب المسيح الطفل الى احضان مصر.
روى سفير مصري سابق في بيروت انه ضحك حتى انقلب على ظهره عندما سمع سياسياً لبنانياً مستجداً يقول: "من يريد ان يخاطب مسيحيي الشرق عليه أن يبدأ الحكي معنا". وقال السفير: ماذا نفعل لصاحب السعادة بملايين الأقباط الذين يعيشون في حي شُبرا القاهري وحده؟
جاء "التيار" رافعاً شعار الدولة المدنية، فإذا بزعيمه الجديد ينتبه فجأة الى حقوق المسيحيين. ومن اجل بلوغها يقتضي التحالف مع اهل الثراء من جميع الطامحين الى العمل السياسي وفقاً لوصايا طانيوس شاهين ضد الاقطاع. ذات يوم اسقط نابوليون الملكية، ثم اعلن نفسه امبراطوراً. وكان له سبعة اخوة واخوات فعيّنهم ملوكاً ودوقات، من نابولي الى فيينا. وعندما انتهت حروبه لم يكن قد بقي لفرنسا ضباط وجنود. بمجرد ان كسب الملازم بونابرت معركة طولون، راح فتى كورسيكا يعامل فرنسا كأنها حديقة تنبت له اليانعين للموت.
لا ينفك المرء يفكر في هذا "الشعب العظيم"، هل يعقل انه لا يستحق حكومة يتسول بها آخر جرعات النزع الأخير؟ هل هذه هي مكافأة الشعب العظيم الذي تشرّد وقُتل ونُفي ومات؟ من اجل مَن ومن اجل ماذا؟ ولماذا يوعد اليوم بالمجاعة والفقر وجهنم... في سبيل من؟
عندما انهى رئيس الجمهورية الاستشارات صدر بيان عن القصر يقول انه "استدعى" سعد الحريري لإبلاغه تكليفه تشكيل حكومة جديدة. لكن لا يحق للمستدعي تسمية وزرائه ولا توزيع الحقائب. ورأى هذا البلد المسكون نفسه امام مشهد سوريالي آخر في المسرح العبثي المستمر: كل يوم صورة رئيس الجمهورية مستقبلاً المستدعى المكلف، محافظَين على التباعد الاجتماعي بكل وضوح وملل، ومصرَّين على التباعد الوطني. وفي الخارج، الشعب العظيم ينتظر، مدركاً اخيراً أنه ليس اكثر من شعار اطلقه سعيد عقل في لحظة نشوة شعرية خدّرت الجميع، ثم تلاشت صلاحيتها مع سائر المنتهيات.
الشعب العظيم في الحجْر، يعتذر حتى عن قداس الميلاد. والبطريرك يقرأ وحيداً رسالة البابا المتضمنة عن عمد واضح اقوال الحويك، بطريرك المئوية، في سياسيي لبنان. لا جديد في الأمر. الجديد الوحيد هو مدى ما وصل اليه التحلل الوطني. الشعب العظيم يبحث عن وطن، والسلطة تبحث عن فتوى.