انتقال التطبيع العربي مع إسرائيل من دول الخليج إلى المغرب العربي يحمل بُعداً مختلفاً، وتأثيراً على الخريطة الجيو – سياسية، وعلى ما تبقى من النظام الرسمي العربي. فالعلاقة الإسرائيلية – الخليجية علاقةٌ مستحدثة نسبياً، وشكلت مفاجأةً واستهجاناً على المستوى الشعبي، بينما التطبيع الذي أُعلن عنه مع المغرب لم يكن مستهجناً، ولم يلقَ أي ردة فعل مباشرةٍ، أو غير مباشرة، لدى المعارضة المغربية التي التزمت الصمت، وعدم الاعتراض على إرادة الملك، على الرغم من الدور الشعبي الكبير الذي كانت تلعبه في تحريك ملايين المغاربة للمشاركة في التظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية وضد إسرائيل.
هذا الاختلاف يعود إلى طبيعة العلاقات المفتوحة أصلاً بين المغرب وإسرائيل منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث أن الملك محمد الخامس كان، وبشكلٍ معلن، يصدر المواقف الواضحة والمخالفة للمزاج العربي الرسمي والشعبي الشامل المعادي لإسرائيل، لا سيّما خلال الحقبة الناصرية. وعندما يقول وزير الخارجية المغربي إن التمثيل الدبلوماسي الجديد لم يُضف أي شيء على العلاقات الطبيعية أصلاً بين المغرب وإسرائيل ومع يهود العالم، بحيث يؤكّد أن العلاقة مع إسرائيل بدأت تنتقل من علاقة أمنية -سياسية خفيّة لدى معظم الدول العربية، إلى علاقة رسمية معلنة لها الأبعاد التي تتجاوز مقولة العداء والمقاطعة التي كانت سائدة في المرحلة السابقة.
وفي هذا السياق نشر معهد القدس للاستراتيجية والأمن الإسرائيلي تقريراً جاء فيه إنه، "من المهم للغاية لإسرائيل أن تشجع التحركات والمبادرات التي من شأنها أن تعزّز التغيير الذي يحدث أمام أعيننا مع الدول العربية، لأنه في ظل حكم الملك السابق الحسن الثاني تكثّف التعاون مع إسرائيل، واحتلت العلاقات معها مركز الصدارة في جدول الأعمال الاستراتيجي في الرباط".
وأشار المعهد إلى أن، "التعاون الأمني بين إسرائيل والمغرب تضمّن العديد من القضايا كالمسائل الاستخباراتية، بل أن المساعدة الإسرائيلية شملت جهود المغرب لإعادة تنظيم جيشه، وبناء الجدار الدفاعي في الصحراء الغربية". وكشف كذلك النقاب عن أنّ "المغرب اعتاد على استضافة القادة الإسرائيليين مثل موشيه ديان واسحق رابين، وحرص على إبعاد لقاءاتهم مع القادة العرب عن الكاميرا لاستكمال جهودهم لتحقيق السلام".
الجديد في التطبيع مع دولة المغرب التي تقع في أقصى المنطقة العربية، وهي دولة ذات وزن كبير، وتأثيرٍ في سياسات المشرق العربي أكبر بكثير من تأثير الجزائر وتونس، رغم أن المخيّل الشعبي المشرقي يميل نحو الجزائر بصفتها دولة الثورة والمليون ونصف شهيد ودورها في مناهضة الاستعمار، وأنها صاحبة الوزن الرئيسي والتأثير السياسي الحاسم على المشرق العربي، كما أنها من الدول الداعمة للقضية الفلسطينية وفق ما يريدها الفلسطينيون. لكن في المعنى السياسي العميق لم تكن الجزائر الدولة المؤثرة في وقف الانعطافات السياسية الحادة والقوية للنظام الرسمي العربي، بحيث أن القمم العربية الحاسمة كانت تُعقد في الرباط في المغرب: من مشروع الملك فهد إلى مشروع ساب، إلى قمة السلام العربي. كما أن الرئيس الفلسطيني كان يذهب إلى الجزائر لطلب الدعم في تحسين حال العلاقات الفلسطينية الداخلية، حيث كانت الجزائر حاضنة لعددٍ من القيادات الفلسطينية، إضافةً إلى استضافتها لدورة المجلس الوطني التوحيدي، وحاضنة إعلان دولة فلسطين. لكن مطالب عرفات في المغرب كانت مختلفة تماماً، لأنه كان يعرف أن الرباط هي معبره إلى أوروبا الغربية وإلى واشنطن. وكان يبحث مع القادة المغاربة في كيفية الاستفادة من هذه القناة المفتوحة على إسرائيل، وواشنطن، ولندن، وبرلين، وباريس، لكي يكون جزءاً من المعادلة السياسية الشرق أوسطية كممثلٍ لحقوق الشعب الفلسطيني عطفاً على تمسكه بحق تقرير المصير.
لسنا في موقع المقارنة، ولا المفاضلة، بين الأدوار العربية المختلفة التي قدّمت الدعم للقضية الفلسطينية، لكن الحديث عن التطبيع، وإعلان العلاقات الرسمية بين المغرب وإسرائيل، وثمنه الاعتراف الأميركي بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، بما يخالف القانون الدولي الذي يعتبر الصحراء الغربية بموجب مقررات الأمم المتحدة أرضاً متنازعاً عليها، يضع العلاقات المغربية - الجزائرية على خط التوتر العالي. فالاعتراف البحريني والإماراتي، وفتح القنصليات في مدينة العيون عاصمة الصحراء الغربية، وجّها ضربة كبيرة للموقف الجزائري الداعم لحركة البوليساريو، والذي ما زال متصلباً في موقفه من العلاقة مع الرباط، في الوقت الذي دخل فيه سباق التسلّح بين البلدين مرحلةً متقدمة. فالإنفاق العسكري الجزائري جعلها دولةً تتمتع بقوة عسكرية متكاملة جوية، وبرية، وبحرية، دفاعية وهجومية، حيث تحدثت تقارير عسكرية في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا عن تنامي القوة العسكرية الجزائرية إلى الحد الذي باتت فيه قوة منافسة في البحر المتوسط.
وعندما تذهب المعادلة الجديدة إلى اعترافٍ أميركي - إسرائيلي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، فإن العلاقات الدولية التي تحكم دول الجوار المغربي، سواء الجزائر أو موريتانيا وتونس أو تشاد، التي سبق أن شهدت توتراً كبيراً وتشهد الآن إعادة صياغة، فإن ذلك يستجلب رد فعل جزائري استباقي على اعتبار أنها باتت دولة محاصَرة من كافة النواحي: في الجنوب الصحراء حيث الإرهاب، وفي الغرب تونس وليبيا حيث الفوضى، وفي الشرق إسرائيل من خلال تطبيعها للعلاقات مع المغرب. وهذا المؤشر يؤسّس للفعل، والتوتر المستند إلى القوة، وبالتالي نحن أمام مرحلةٍ جديدة للعلاقات بين دول المغرب العربي فيما بينها وبين دول المشرق العربي ما يؤثر تأثيراً عميقاً على منظومة العمل العربي المشترك، وسيؤثر على التحولات التي تشهدها الدول العربية.
إثر إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن اتفاق التطبيع بين المغرب وإسرائيل، غرّد رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، على حسابه في تويتر معلقاً: "إن الحاكم الحالي لأميركا، ترامب، يبشّر الأجيال المقبلة في العالم العربي من مغربه إلى مشرقه بمستقبلٍ أسود، تسوده معالم الحروب والنزاعات القبلية والعرقية والسياسية في كل مكان، وحيث إسرائيل ستغزو كل زاوية وناحية منه لمزيد من التفتيت والتدمير". لذا يمكننا القول إن ما اعتدنا عليه من دورٍ للجامعة العربية وقممها، وما كنا نسمعه عن الدفاع العربي المشترك، بات الآن من الماضي، وعلينا الترقب لما ستكون عليه العلاقات العربية – العربية، وكيف ستكون طبيعة النظام الرسمي العربي، وما هي الأسس الجديدة التي سوف يستمر بموجبها العمل السياسي، سواء العلاقات بين تلك الدول الناطقة بلغة الضاد، أو علاقاتها بالكيان الإسرائيلي، أو العلاقات الفلسطينية – العربية، أو الفلسطينية – الإسرائيلية، وهذا ينطبق على لبنان أيضاً، البلد الذي يفتقد إلى بوصلة سياسية، ويتأثر تأثيراً عميقاً بالتحولات التي جرت في مثلث العلاقات العربية – الفلسطينية – الإسرائيلية، وعلاقة هذا المثلث بالهيمنة الأميركية على المنطقة، وكيفية صياغة الحركة المستقبلية للدول الصاعدة.
إن هذه الفوضى السياسية الغامضة، وهذه الضبابية السائدة لا يمكن الجزم في تحديد اتجاهاتها ولا ترجيح احتمالاتها، فكل يوم يحمل حدثاً جديداً، وكل جديد يؤثّر على المعادلة، وبالتالي يجب التنبّه إلى كيفية إدارة العملية السياسية بحذر، وكيفية اتخاذ القرارات بحكمة، ونضجٍ يستوعب المتغيّرات، والقدرة على الصمود وعدم الانهيار.