ربط كمال جنبلاط ما بين الذهنيّة العربيّة والنكسات المتلاحقة الّتي مُنيت بها الأمّة العربيّة، واعتبر أنّ هذه الذهنيّة المريضة، كما وصفها، هي عائق أساسي أمام تقدّم العرب وتطورهم والتحاقهم بركب التطور والحضارة والإنماء.
فالعرب في مفهوم كمال جنبلاط يحتاجون إلى عملية تطهير نفساني عميق، وبدون هذا التطهير يستحيل عليهم الخلاص مما هم عليه من تخبّط وانقسام وضياع.
فماذا عـن هذه الذهنية المريضة التي أشار إليها المعلّم، وألقى الضوء عليها؟
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى بعض النقاط التي تبدو متداخلة ومترابطة فيما بينها إلى حـدٍ بعيد، ومنها:
1- إنَّ هذه الذهنية هي أشبه ما تكون بالذهنية الميثولوجية – السحرية البعيدة عن منطق العقل، حتّى يبدو أن مولانا العقل، وفق تعبير المعلّم: "لم يدخل بعد إلى الحضارة والحياة العصرية العربيَّين".
2- إنَّ هذا الفكر العربي، الذي لم يتعقلن بعد، بدا وكأنّهُ عاد إلى بداوتهِ الأولى في رفضهِ لأرسطو، وبايكون، وديكارت، وفي تمسُّكهِ بالحسّ العشائري وما ينجم عنهُ من مصالح وانجذابات... وإنَّ مشكلة اللبنانيين والشرق أوسطيين أنهم لم يقرأوا ديكارت، على عكس عرب شمال أفريقيا الذين قرأوه.
3- إنَّ هذه الذهنية العربية، "يجب أن تصبح ذهنية علمية، عقلانية تلتزم بالتفكير الفلسفي اليوناني، الذي هو تفكيرٌ أصيل في تاريخ البشرية".
4- إنَّ أساس المشكلة في مواجهة إسرائيل، هي مشكلة الإنسان العربي قبل أي شيء، لا مشكلة السلاح وغيره... أي هي مشكلة التخلّف والجهل العربيّين.
5- إنَّ الذي ينقص السياسة اللبنانية هو المنطق أي العقل... وكذلك الذي يحوج السياسة العربية هو المنطق، هو العقل... إنَّ إسرائيل انتصرت على العرب باستخدامها العقل لا أكثر.
6- إنَّ الانتصار على إسرائيل يقوم بادىء ذي بدء في الانتصار على أنفسنا، في الانتصار على أنانيّاتنا ونزواتنا القبلية، في الانتصار على روح التشيّع والتنافر والتفرّق المتفشيّة فينا. أي في الانتصار على نقاط الضعف لدينا.
7- إنَّ العربَ، عبرَ تخلّفهم، وانحطاطهم، وذهنيّتهم المريضة، وخلافاتهم، وتناقضاتهم، وتآمرهم على بعضهم البعض، هم الذين ساهموا بشكلٍ غير مباشر في قيام دولة إسرائيل، وتحقيق وعد بلفور عملياً... هذه هي الحقيقة التاريخية الجارحة.
8- إنَّ العرب يتحدثون، ويجادلون، ويذهبون مذاهب في التفكير العاطفي غير واقعية ولا- عقلانية، وتنقصهم "حلقة مفقودة" بين التصميم، والتنفيذ وملاحقته... فالإعلان عن القرار لا يكفي بحد ذاته، ولا يقوم مقام التنفيذ.
9- إنَّ العرب شعبٌ يقدّسُ الكلمة، وتستهويه نبرتها – ولذا كان الكتاب الكريم منزلاً، وكان علم الحديث والفقه وما إلى ذلك – فلا نجعل الانجراف في تيار الكلام يخرجنا عن المعقول والمقبول، وخاصة عن المصلحة القومية. فليسَ تكرار الكلمة هو الذي يعطيها قوّة الفعل، بلْ الطريقة التي تُلفظ بها الكلمة، والصدق الكامل الذي تنبثق منه والتجرّد الذي تصدر عنهُ.
10- إنَّ هذه الذهنية العربية التي أشرنا إليها لم تتحرّر بعد من مركّب التواكلية والتردّد والخوف، وعدم الثقة بالنفس والقدرة الذاتية على المواجهة واتخاذ القرارات، فضلاً عن الشعارات الطنانة الرنانة الجوفاء والمزايدات الرخيصة.
11- إنَّ العرب يعانون من وباء التطلّع إلى الماضي بصورة دائمة، ومرض التقليد لكل شيء من دون تمييز أو تدقيق، وهو لون من ألوان (التعلّق ب) الصنم الذي يندرج في إطار الجمود والتخلف والانحطاط، وعدم مجاراة التطوّر.
12- إنَّ العرب يمرّون – كما يحدث لبعض الشعوب – في مرحلة غفلة عن الحق، وتخلٍ عن الواجب القومي... وكأنَّ النَفَس الطويل الذي عُرفوا به قد فارقهم في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخهم.
13- إنَّ انتصار اليهود يعود إلى وحدة حركتهم الصهيونية العالمية في الخارج، وتطبيقها على أسس علمية وتقدميّة، أمّا انكسار العرب فيعود إلى تفكّك تضامنهم وتناقض أوضاعهم واتجاهاتهم في الخارج، وتعثّرهم في الداخل جرّاء النزعة القبلية والعشائرية، ورواسب الطائفية والإقطاعية المتفشيّة فيهم، علاوة على النظام الرأسمالي المسيطر والتناقض الطبقي الاجتماعي القائم...
14- امتلك العرب من المال والطاقة والقوة الاستراتيجيّة وإمكانيات النهضة الإنمائيّة والقوميّة والموقع الاستراتيجي ما لم يسبق لدولة أو لأمّة أخرى أن امتلكتهُ في السّابق، ورغم ذلك نرى العرب يُقدّمون التنازلات ويركضون وراء التسويات المجحفة بحقّهم التاريخي أحياناً، وبحق شعب فلسطين!
15- إنَّ سبب التراجع العربي يكمن في الضغوطات الاستعمارية، والتدخلات الخارجية، وإفراغ الحركة القومية العربية من مضمونها الديمقراطي، علاوة على الذهنية العربية المريضة التي لم يتمكّن الدّين الإسلامي من التغلّب عليها إلّا لفترة وجيزة.
16- إن هزيمة العرب في العام 1948، التي أدّت إلى قيام دولة إسرائيل تحولت في المفهوم العربي إلى نكبة. وهزيمة العرب في الخامس من حزيران العام 1967، التي أدّت إلى احتلال إسرائيل للضفة الغربية، وهضبة الجولان السوريّة، وشبه جزيرة سيناء المصرية، تحوّلت كذلك إلى نكسة. وانتصار العرب الجزئيّ في حرب العبور في العام 1973، تحوّل إلى إنتصار كامل على إسرائيل الـخ.....
دعا كمال جنبلاط العرب إلى الانتقال من هذه الذهنية المريضة القائمة على المزايدات والشعارات الرخيصة، والخوف من التعبير عن الرأي، وقول ما يجول في الفكر على حقيقته، إلى الذهنية العقلانية التي يتحلّى بها الغرب، وكذلك حكام بني إسرائيل أنفسهم الذين بفضل ذهنيّتهم هذه تغلبوا علينا قبل اعتمادهم على أي شيء آخر.
دعا كمال جنبلاط العرب إلى التحرّر من هذه الذهنية الرجعية المتخلفة التي تعيق تقدّمهم وتطورهم، وإلى ثورة ثقافيّة علمية علمانية بات العالم العربي بأمسِّ الحاجة إليها.
ودعا كمال جنبلاط العرب إلى الإخلاص والجدية في عملهم، وإلى الإيمان بقيمة العمل وجدواه، وإلى الخروج من نهج المزايدات والارتباك والإتكالية، وإلى رفض الذهنية السحرية الانتظارية الاستسلامية القدَرية (في المعنى السلبي للكلمة) التي لا تزال تتحكم بمصائرهم.
برأي كمال جنبلاط أنَّ مأساة الشعب الفلسطيني تكمن أولاً وأخيراً في مأساة العرب بنفسيّتهم المريضة المتخلفة جرّاء عهود الانحطاط التي مرّوا بها، وسياسة القمع والاضطهاد التي يعانون منها.
أخيراً، إنَّ العرب باختصار، بحاجة إلى الانتقال من هذه الذهنية الأدبية الرومانسية في مواجهة الأحداث، إلى الذهنية العقلانية العلمية الحديثة، فالشعارات وحدها لا تحرّر أرضاً، ولا تعيد حقاً.
*عضو مجلس قيـادة الحــزب التقــدّمي الإشــتراكي