Advertise here

مهنتي سيفي

17 كانون الأول 2020 16:24:56

العمل شرف الحياة، ومن لا يعمل لا يستحقّ الحياة. يقول الفيلسوف كمال جنبلاط: "طالما أنّك مستهلك، عليك أن تكون منتجاً". من هذا المنطلق على الإنسان أن يعمل، وأن يؤمّن مهنة مستقبليّة له تُبعد عنه الفقر، والعوز، والفاقة، والذّل، والهوان، فيعيش بمأمن عن استعطاء النّاس. يقول الكاتب سلام الرّاسي: "النّاس ثلاثة أجناس: ناس للمنفعة، وناس للضرر، وناس زيادة عدد". وحتى لا نعيش على هامش الحياة، ولا نكون طفيليات تأكل من تعب الآخرين، كانت المهنة. فكيف للمرء أن يختار مهنته بما يتوافق مع حضوره، وشخصيّته، ومقوّماته، وقدراته الجسديّة، والفكريّة، والعقائديّة، والكيانيّة، والاجتماعيّة؟ وما هو دور البيت والمدرسة، والمجتمع، والدول، في توجيه الطلّاب، وتصويب اختيارهم لمهنة المستقبل؟ وما هي المعايير الّتي تقيّم فائدة مهنة ما؟

لكلّ فردٍ منّا نوعٌ مختلف من أنواع الذكاء، كالذكاء المكانيّ والذكاء الرياضيّ والاجتماعيّ... إلخ.

فلا يصحّ لمن يفتقد الذكاء المكانيّ أن يكون دليلًا سياحياً. ولمن يفتقد الذكاء اللّغويّ أن يكون أستاذاً يشرح لطلّابه، وخطيباً على منبر، ومندوباً لتسويق سلعةٍ من السلع. كما لكلّ منّا بيئة تقيّده، أو تطلقه، تكبّله أو توسّع آفاقه، ما يساهم في بناء شخصيّته، وصقلها، وجعلها تنخرط في المجتمع وتختار المهنة المناسبة. من هذا المنطلق اختلفت المهن، وتنوّعت بما يتماشى وحاجةَ المجتمع بجميع فئاته وطبقاته.

للبيت، والمدرسة، والمجتمع، والدولة، دورٌ في اختيار المهنة وفق العرض والطّلب والاختصاص، وفي توجيه الطلّاب، وتصويب اختيارهم وفق معايير السن، والمستوى العلميّ، والقدرات الذهنيّة، والجسديّة، والنفسيّة. ولأنّ المهنة تلازم الإنسان، وتطبع حضوره، وتواكب مسيرته في الحياة نظراً لمدى أهميّتها، فإنّ للمدرسة، والبيت، والمجتمع، والدولة أهميّةً كبرى في تصويب (توجّه) الطلّاب لاختيار مهنتهم المستقبليّة على أساس حاجة المجتمع، وقدرات الفرد لاختيار الإنسان المناسِب للمكان المناسب. ففي الدول المتحضّرة يتمّ تدريب الطلّاب على وظائف شتّى، ومهنٍ تلائمهم منذ نعومة أظافرهم، فمن شبّ على شيء شاب عليه، وعندئذ يمتلكون الكفاءة، والمهارة، والقدرة، والجدارة، في ممارسة مهنتهم وتطويرها. وقد وردَ قولٌ للقائد هتلر يشير إلى أثر المحيط في اختيار مهنة المستقبل للأفراد: "أعطِني مئة شخصٍ لأجعل منهم قادة متقدّمين ينالون وظائف متقدّمة، كما أعطني مئة شخصٍ أجعل منهم لصوصاً. فالإنسان ابن بيئته".

لذا، المجتمع يؤثّر في اختيار الأفراد لِمِهَنِهم. فالمفكّر الفرنسيّ جان جاك روسو يقول: "الإنسان جيّد بفطرته، لكنّ المجتمع يُفسده"، ما يعني أنّ المجتمعات، والدّول ترسم مستقبل شعوبها، وتتسبب في  هدم قدرات الفرد وتفتيتها، ومن جهة ثانية  تعمل على تعزيز القدرات وصقلها، حيث أنّ الدولة (في لبنان) تنتقي المهن والوظائف للمواطنين وفق معايير مذهبية، وطائفية، وانتمائيّة تعاطفيّة، وتنفيذاً لقانون ستّة وستّة مكرّر، وعلى أساس تقرّب الرعيّة من الملك، ومن أصحاب المقامات الزمانيّة.

وكما أنّ المهنة تقاس على أساس المعيار القانوني والصحّي والنفسيّ، والعمريّ، والعلميّ، والاجتماعيّ، كذلك نجد في مكان ما أن للخبرة أهميّة في اختيار مهنة المستقبل لأنّ المعرفة قوّة وسلاح. وكثيراً من المهن تكون وراثيّة. فابن الفلّاح يكون فلّاحاً، وابن المحامي يكون محامياً، وابن السياسيّ سياسياً، لأنّ الأبناء والبنات سرّ أهلهم/هنّ. ما يؤكّد أنّ البيت هو اللبنة الأساس لانطلاقة الإنسان وتطوّره.

كما أنّ معوّقاتٍ وظروفاً تؤثّر على مسار مواصلة المهنة، ما يضطرّ الشّخص إلى تغيير حرفته، لأنّ المهن تتغيّر بتطوّر المجتمع. عندئذٍ ينبغي على المرء أن يتطوّر في مهنته ويكبر معها ليتسمّر فيها. "من نامَ لم تنتظره الحياة".

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ الميكانيكي التقليديّ توقّف عن العمل لأنّ الميكانيك اليوم يقوم على أساس قراءة كفّ الكمبيوتر في السّيّارات والمعدّات. والسمكري التقليدي توقّف عن العمل اليوم إذ إنّه لم يعمل على تطوير عمله لأنّ تطوّراً قد لحق المعدّات الّتي يركّبها، ما جعله مضطراً لقراءة  تطبيقٍ إلكتروني بدقة. فكلّ شيء تطوّر وتغيّر، ما جعل المهنة اليوم ترتبط بمدى ملاحظتها للظروف، والكفاءات، والتّطلّعات، والمستقبليّة.

انطلاقاً ممّا تمّ ذكره آنفاً، مهنة الفرد في المجتمع سيفه يحارب به الجوع، والمرض والتشرّد وذلّ السؤال. "مالك صنعة، مالك قلعة". ومهنة الفرد ترتكز على مدى حاجة الفرد، والمجتمع، والدولة، وتتماشى وفق القدرات الفرديّة والمجتمعيّة، ومدى حاجة الدّولة إلى هذه المهن لتغدو بين الدول المتطوّرة. 

استناداً لما ذكرنا نخلص إلى أنّ كثيراً من المهن قد ولّت بفعل تغيّر ظروف الحياة، وكثيراً من المهن أدرِجت وفرضت نفسها واستجدّت لأنّ المجتمع احتاجها، كعالم الذرّة، والخبير التكنولوجيّ، والعامل في التسويق online، وغيرها من المهن.
فهل سنعي المهن الّتي سيختارها أولادنا مستقبلياً؟ وهل سيجد البشر مِهَناً في مثل هذه الأيّام الّتي يلوحُ فيها شبح البطالة؟ أم هل ستسيطر الآلة مكان الإنسان لتأخذ وجوده؟!

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".