Advertise here

"سنجار" مدينة العذابات على خطوط الصراع الإقليمي مجدداً

16 كانون الأول 2020 17:33:25

مدينة سنجار العراقية عاصمة الأيزيديين كانت على الدوام محطة لتقاطعات جيوسياسية وعسكرية وديموغرافية مهمة، واتصفت عبر التاريخ بأنها مدينة العذاب، وقد دمرتها الحروب مراراً، وهجرت المظالم سكانها في أكثر من مناسبة. وليست مصادفة أن تكون هذه المدينة ساحة المنازلة الكبرى بين الفرس والعثمانيين في العام 1607، وتتحول في عام 2014 الى بوابة لدخول الدولة الإسلامية الإرهابية المزعومة "داعش" الى بلاد الشام، لتصبح اليوم مجدداً مساحة للتجاذبات غير المباشرة بين المشروعين التوسعيين التركي والإيراني.
 
كانت زيارة وزير الداخلية العراقي عثمان الغانمي الى قضاء سنجار يوم الأحد الماضي في 13 كانون الأول (ديسمبر) لافتة من حيث توقيتها، ومن حيث أهدافها. وبالرغم من عدم قدرته على دخول المدينة والبقاء في مقر الشرطة في إحدى قرى القضاء، لكنه تمكن من إيصال الرسالة التي حملها من الحكومة المركزية في بغداد، وفيها رفض لاستباحة المدينة من قبل الميليشيات الغريبة التي حوَّلتها الى سوق لتجارة الممنوعات وممر للتهريب، وتأكيد ضرورة عودة المهجرين من سكانها. وفي الرسالة أيضاً تصميم هذه الحكومة على إستعادة قضاء سنجار، بعد أن اعتبر الدستور العراقي في المادة 140 أنها من المناطق المتنازع عليها مع إقليم كردستان، علماً أن قوات البيشمركة الكردية انسحبت من المدينة في تشرين الأول (أكتوبر) 2017 إثر الخلاف الذي وقع على إستفتاء الاستقلال الفاشل، معترفةً ضمناً بأحقية السلطات المركزية في بغداد بالسيادة على القضاء.
 
سنجار الجريحة التي تقع بالقرب من تقاطع جغرافي يتوسط العراق وسوريا وتركيا، لا يعيش فيها اليوم سوى 35 في المئة من سكانها الأصليين المئة الف والذين ينتمون الى الديانة الأيزيدية مع أقليات من العشائر العربية والتركمان. لم تدخُل الدولة العراقية الى سنجار بعد، وما زال سبب التهجير الذي فرض على سكانها قائماً، ذلك أن الوحشية التي مارستها عصابات "داعش" بحق الأيزيديين عام 2014، أبعد غالبية هؤلاء الى مناطق آمنة في إقليم كردستان وفي المناطق العراقية الأُخرى، وعدد كبير منهم تمكن من الهروب والهجرة الى المانيا وغيرها من الدول الأوروبية، وما يقارب من 2000 من النساء والأطفال ما زالوا مجهولي المصير حتى اليوم.
 
تُسيطر على سنجار اليوم ميليشيات تابعة لـ"حزب العمال الكردستاني" التركي، ومعها مجموعات أيزيدية محلية، وكذلك تتمتع فصائل "الحشد الشعبي" العراقي "الولائي" أي المؤيدين بالمطلق لإيران بنفوذ كبير في المدينة والقضاء، ويدفع هؤلاء رواتب لمجموعات أيزيدية مؤيدة لهم ويُزودونهم بالأسلحة والمؤن. وقد نسج قيس الخزعلي زعيم "عصائب أهل الحق" العراقي وقائد ميليشيات "الحشد الشعبي" الولائي علاقات واسعة مع "حزب العمال الكردستاني" المعادي لتركيا، وأكمل بذلك الهيمنة على المدينة الإستراتيجية، بحيث أصبحت الميليشيات الموالية لإيران تتحرك بإطمئنان في المنطقة. وفي الإستراتيجية الإيرانية لسنجار دور حيوي في اتجاهات ثلاثة.
 
في الإتجاه الأول، ترى طهران بسنجار مكان تقاطع للمصالح وتعزيز العلاقة مع "حزب العمال الكردستاني" بزعامة عبدالله أوجلان الذي يشكل تهديداً للحكومة التركية، ومن هذه الزاوية يمكن لطهران أن تلعب على أوراق تبادل المنافع - أو رد الأضرار - مع تركيا، حيث المطامع التوسعية للطرفين تفرض الاختلاف في عدد من المسائل، منها حول التغلغل التركي في شمال سوريا وشمال العراق، ومنها التباين القائم حول الاستثمار في المنظمات الإرهابية الوليدة، بحيث تحاول كل من الدولتين توجيه هذا الاستثمار بما يخدم مصالحها، وحدة هذا التباين انكشفت مؤخراً على شاكلة واسعة في تعارض الموقف حول أذربيجان.
 
وفي الاتجاه الثاني تحاول المجموعات المؤيدة لإيران في "الحشد الشعبي"، توظيف سنجار في خدمة مشروع المعابر المفتوحة، من إيران الى العراق الى سوريا الى لبنان، لكونها مُناسِبة جغرافياً وديموغرافياً، ذلك أن غالبية سكانها ليسوا من المسلمين السُنّة، وموقعها قريب من مدينة دير الزور السورية التي تعتبر محطة هامة في مشروع المعابر المفتوحة التي تُمرَّر عبرها كل أنواع السلع والأسلحة والمواد التي لا يمكن لها العبور عبر القنوات الرسمية.
 
والاتجاه الثالث في الإستراتيجية الإيراني التي لا تلائمها عودة الاستقرار الى سنجار، هي إبقاء حالة الضغط على حكومة إقليم كردستان العراقية، في محاولة لتحييد هذا الإقليم عن التأثير في موزاين القوى العراقية الداخلية التي بدأت تظهر أنها لن تكون لصالح الإيرانيين، خصوصاً بعد الخطوات الجريئة التي اتخذها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في مواجهة ميليشيات "الحشد الشعبي" الولائي، وفي انفتاحه على الدول العربية المجاورة.
 
الأيزيديون الذين يدفعون باستمرار فاتورة غالية للتقلبات السياسية والدينية والعرقية في المنطقة، يدفعون اليوم ضريبة غالية لمناسبة تعارض المصالح التوسعية الإقليمية الشرِهة.