Advertise here

والدي... عزّتي دموعي وابتساماتي

08 آذار 2019 13:13:28

كان ذلك في أوائل الثمانينات... كنت مهندس مبيعات في بداية عملي مع شركة كندية - لبنانية وكنت مسؤولاً عن دول شمالي أفريقيا بدءاً من ليبيا وانتهاءاً بالمغرب وموريتانيا...
كان راتبي كمهندس لا يتجاوز الثلاثماية ليرة لبنانية أعمل ليلاً نهاراً حتى أستطيع إيفاء ديوننا كبيت وكان والدي وبعد نضال عشرين عاماً قد أصبح مديراً في إحدى الشركات اللبنانية وراتبه كمدير في حدود الألف ليرة لبنانية...

وكانت وظيفتي تسويق الإنتاج الصناعي لشركتنا ومركزها بيروت المتمثل في تصنيع السقالات والقوالب الحديدية للإسمنت المسلح... وبدأت مشواري مع الشركة في إيران في طهران وكنت مسؤولاً عن جنوبي شرق آسيا وصولاً إلى تايلاند ثم انتقلت إلى شمال أفريقيا بعد خمس سنوات...

وموضوع مقالتي له علاقة عميقة بالتربية وبالأخلاق الحميدة التي كان يتمتع بها جيل آبائنا ومثاليتهم وعمق نظرتهم للحياة بكل مزاياها وتفاصيلها...

وموضوع مقالتي بدأ مع شركة مقاولات ليبية كبرى كانت تقيم حوالي ألف فيلا في مدينة سيها جنوب ليبيا وكانوا يريدون قوالب حديدية للأساسات ولكمية ماية فيلا... ودرسنا المشروع في بيروت لكيفية القولبة لخرسانة الأساسات وبعد أسبوع كامل من الدراسة ووضع أسعار قوالبنا واصلة إلى مدينة سبها في جنوب ليبيا وجاء وقت السفر إلى طرابلس عاصمة ليبيا وكانت المقابلة مع رئيس الشركة وهي شركة عامة تخص الدولة أيام الرئيس معمر القذافي... وقدمت الخرائط والدراسة والأسعار... فكانت مناقشات مع الفريق الهندسي التابع لشركتهم وأخذت بكافة الملاحظات وعدت إلى بيروت للدراسة من جديد مع الأخذ بعين الاعتبار ملاحظات مهندسي شركتهم... وبعد أسبوع كامل عدت أدراجي إلى ليبيا بعد دراسة معمقة من جديد... وفي اليوم الثاني من وصولي كانت مقابلتي بناء لطلب الرئيس منفردين... وبعد أن قدمت له الخرائط الجديدة وهو مهندس في نفس الوقت، أبدى إعجابه بالخرائط وعندما وصلنا إلى الأسعار كان سفرنا أتذكره دائماً: 1.224.000 ليرة لبنانية (مليون ومايتان وأربعة وعشرون ألف ليرة لبنانية) وبحركة لم تعجبني قال لي الآن دخلنا مرحلة الجد...!! كم ستعطيني خصماً على الفاتورة قلت فوراً معي إذن من شركتي بـ 5% فقال لا ما زلنا بعيدين عن الخصم الحقيقي... أريد 15% من أجل شركتنا وحتى أقوي مركزي في شركتنا وهذا حديثه!! طلبت منه إذناً حتى أتصل برئيس شركتي في لبنان وأرى إذا كان ذلك ممكناً فجاءني الجواب من بيروت: ولو يا محمود شو ناطر... نعم نحن مع خصم 15% ورجعت إلى الرئيس الليبي قائلاً مبروك لقد وافقت شركتي على الـ 15%...

فما كان منه إلا وقد لمعت عيناه بكل فرح الدنيا وقال لي: أحمدية اغلق هذا الباب، أي باب المكتب واسمعني... أريد أن تكون الـ 15% ملكاً لي ولك مناصفة أي 168800 ليرة لبنانية ولكل واحد منا 84400 ليرة لبنانية وكان راتبي 300 ل.ل. في تلك الأيام أي قيمة 281 شهر أو 23 سنة!!! وتابع: أنا سأعطيك رقم حسابي في جنيف وأنت تعطيني رقم حسابك في لبنان وعندما يصلني المبلغ أحول لك حصتك...!! كنت مشدوهاً ولا أصدق ما أرى وأسمع... وكان هذا المبلغ في تلك الأيام كافياً لبناء 8 طوابق من البناء الحديث... فقلت له اتركني أتكلم مع والدي ومن مكتبك وكان لي ما أردت فجاءني صوته الذي لا أنساه قائلاً حرفياً: محمود أنت بتعرف أنه أنا وأنت منقبض شهرياً 1300 ل.ل. وعلينا ديون للمصارف 2000 ليرة لبنانية... ونحن بأمسّ الحاجة لهذا المبلغ المغري ولكن يا محمود كرامتنا أغلى وأثمن وأريد منك أن تبقى مرفوع الرأس أمام ولي نعمتك مديرك في بيروت... لا أقول لك ارفض... بل إقبل... ولكن عندما تصل الفلوس إلى حسابك تقبضها وتقدمها إلى رئيس شركتك فتكون قد نلت ثقته الكاملة ولم تخسر شركته هذا المشروع لأنه المشروع الأول من حيث حجمه الذي يدر على الشركة قرابة المليون دولار أميركي، بينما وقبله لم تستطع الشركة استقبال طلبات تتجاوز الـ 50.000 $ أميركي... وكان له ما أراد والقصة تطول وتطول وأصبح المبلغ بين يدي رئيس شركتي وهو غير مصدق... وراحت الأيام وجاءت الأيام وكان يوم وفاة أبي بعد 3 سنوات على هذه الحادثة وتفاجأت برئيس الشركة وبعد انتهاء المأتم يقدم لي ظرفاً فيه خمسون ألف ليرة لبنانية شكلوا الرأسمال الذي بنيت فيه نفسي وربيت فيه جيلين أخوتي أربعة مهندسين (أيطاليا وفرنسا) وأبنائي مهندسة وثلاثة جامعيين من الجامعة اليسوعية في بيروت...

قصة ستبقى خالدة في ذاكرتي للأبد أقدمها بتواضع لأجيال جديدة ولآباء جدد لعلها توصل الرسالة!