Advertise here

وليد جنبلاط: وصيّة الحرية والتسامح

08 آذار 2019 08:23:00 - آخر تحديث: 08 آذار 2019 10:10:25

مهجوس وليد جنبلاط بالتاريخ. قدريٌّ إلى حدّ التماهي مع الأحداث والمصادفات التاريخية. على قدر زهوه متنقلاً بين ضيوفه، في استقبال الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، كان قلقه بارزاً على محيّاه. والقلق سمة تاريخية لدى وارث البيت الجنبلاطي، لأنه يضطّر إلى التفكير بلا كلل بالمستقبل، فتراه منهمكاً باحتمالاته، باحثاً ومستنبطاً بصيص الأمل من جدران مقفلة. تنقّل جنبلاط بين مختلف الحاضرين والتعب بادٍ على وجهه. تعب السنين والسياسة. وتعب المستقبل غير متضح المعالم. لكن رمزية العلاقة الفرنسية اللبنانية ومع المختارة بالتحديد كان لا بد من إحياء مئويتها.

تعب السنين
قبل مئة سنة، كان لبنان الكبير، الذي "وُهب" من قبل الفرنسيين. اليوم ثمة ما أصبح مفقوداً من هذا اللبنان، وفق رؤية جنبلاط وقراءته. عام 2014، اعتبر جنبلاط أن اتفاق سايكس بيكو انتهى. واليوم يخشى جنبلاط على لبنان بحدوده المعروفة، متسائلاً إذا ما كان سيصبح لبنان الأكبر، أم الأصغر. لبنان الأكبر نسبة إلى ذوبان الحدود بين لبنان وسوريا، وسيطرة حزب الله على مناطق واسعة في الداخل السوري، بشكل مترابط مع الجغرافيا اللبنانية.

تعب السنين ينعكس على أداء جنبلاط مع الحاضرين، يحرص على إلقاء السلام على جميعهم، لكنّه "يضوج" في هذه الحالات، وهو أساساً كان قد استقال من الاستقبالات الشعبية، وأحالها إلى نجله تيمور، قبل سنوات، لأنه لم يعد يقوى على مجاراتها. في هكذا حالات، يصاب بضيق، على الرغم من الزهو بإحاطته من قبل كثيرين. يضيق ذرعاً بالجلوس طويلاً، والالتزام بقواعد البروتوكول، يخرج مشّاءً، يضع يديه وراء ظهره، ويطلّ من شرفة الدار على الشوف، أو على جبل لبنان، "أساس لبنان الكبير" كما تحادث مع هولاند، الذي كان يتصرّف كأنه في منزله، بلا أي تكاليف، يتجوّل بين الجموع وحيداً، يتناول طعامه بنفسه.

على طول الطريق إلى الشوف، رفعت لافتات مرحّبة بالزائر الفرنسي، وبعمق العلاقات اللبنانية الفرنسية. صورة استقبال الرجل، تذكّر بمشهدية 14 آذار 2005. لكن الزمن اختلف، تماماً كما اختلفت العلاقات الفرنسية مع المختارة، في حقبة إخراج كمال جنبلاط لهذه الدار إلى رحاب العروبة والقومية والقضية الفلسطينية. لم تكن هي الزيارة الأولى لهولاند إلى المختارة، زارها في آذار 2005. لكن الظروف تغيرت بشكل جذري خلال 14 عاماً. في ذاك العام، كان هولاند ووفد من الاشتراكية الدولية يدعم جنبلاط وثورة الاستقلال، وتعززت العلاقة أكثر، خصوصاً بعد وصول هولاند إلى الإيليزيه، حيث استمرّت العلاقة الخاصة والعائلية بين الرجلين.

الوردة والبندقية 
في السادس عشر من آذار 2017، لبس جنبلاط كوفية فلسطين. وأُحيط بكل المكونات اللبنانية، خصوصاص حزب الله وحركة أمل. وألقى العباءة على كتفي تيمور. رمزية تلك المشهدية كانت ببروز بنادق ثورة العام 1958. كان جنبلاط يقول إن السلاح زينته ثورة، حين تقتضي الحاجة. كانت تلك الذكرى الاسثنائية التي تبرز فيها صور البنادق. بخلاف كل المحطات الأخرى، التي كان يكتفي فيها بإلقاء وردة على ضريح كمال جنبلاط. العبرة كان قد استوحاها من ياسر عرفات، الذي وقف على منبر الأمم المتحدة قائلاً: "أتيتكم حاملاً غصن الزيتون بيد والبندقية باليد الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي". بدا جنبلاط وكأنه يقول إنه يمد يده بوردة حمراء إلى من يريد، وخيار البندقية جاهز أيضاً.

يحرص جنبلاط حالياً على إلقاء البندقية جانباً، والمقصود بالبندقية معناها السياسي لا المعنى العسكري. يصرّ على استمرار فتح قنوات التواصل مع مختلف القوى. مصافحة بيد ووردة باليد الأخرى. يد ممدودة إلى مختلف الأفرقاء في الداخل، وأخرى ممدودة إلى مختلف القوى الإقليمية والدولية، وليست زيارة هولاند إلا أبرز دليل على قدرة جنبلاط على الخروج من "الطوق"، وفتح الآفاق أمامه. فإذا ما تعرّض لحصار داخلي، يجد الطريق إلى توسيع أفق علاقاته الخارجية وكسر الحصار.

معركة القرار المستقل
إنها "زئبقية" وليد جنبلاط المعروفة، والتي يعيبها البعض عليه، لكنها تمثّل نقطة قوة يُحسد عليها، ويستحيل على غيره إتقان فنونها. فأيام الاجتياح الإسرائيلي مثلاً، وبعد هزيمة الحركة الوطنية، ودخول "القوات اللبنانية" إلى الجبل، وانسحاب الفلسطينيين من لبنان، وهزيمة الجيش السوري، كان يُفترض بجنبلاط الاستسلام أو إعلان الهزيمة، لكنه يومها لم يفقد حيلة، ذهب إلى موسكو، واستطاع استحضار الاتحاد السوفياتي نفسه إلى لبنان، لإعادة التوازن. بل وهناك صورة مأخوذة عنه، تصفه بأنه الرجل الذي وقف بوجه بارجة نيوجيرسي وريغان عام 1983.

وعندما حاول حافظ الأسد تطويقه والإطباق على عنقه، خاض معارك "القرار الوطني المستقل"، وكانت لديه خيارات عديدة، كالتحالف مع منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، والانفتاح على ليبيا طوال فترات الحرب. وحتى في مراحل ما بعد الحرب، غالباً ما كان لدى جنبلاط خيارات أخرى لمواجهة التضييق أو الاستتباع من قبل السوريين، فكانت علاقته الممتازة مع المملكة العربية السعودية، التي يستند إليها لتحسين العلاقة مع النظام السوري نفسه. يتقن فنّ التوازنات الدقيقة، ولحظة الإقدام أو الإحجام عند كل منعطف، فيبقي يده ممتلئة.

مشعل الحرية
يتعرّض جنبلاط اليوم لجملة هجمات، متعددة الأوجه. في البعد السياسي المحلّي، من خلال التسوية التي حصلت والتي تستمر مساعيها لتطويقه، وفي البعد الدرزي من خلال تجميع القوى الدرزية المناهضة له والمحسوبة على النظام السوري، والتي تهدف إلى خلق فتنة درزية درزية، وبالتالي إغراقه في وحول المذهبية داخل بيته، لكنه غالباً ما كان يلتف على المنطق المذهبي، بالذهاب إلى الرحاب الأوسع، رحاب القومية العربية والعروبة، وأبعد إلى رحاب العالم الإسلامي. وفي مكان آخر، يمكنه أن يكون جزءاً من حركات التحرر في العالم، أو مكوناً أصيلاً في الاشتراكية الأممية.

ولأنه زميل مخضرم للتاريخ، كان يستبقه باستمرار عند كل منعطف مصيري. ومن ينسى هنا مثلاً لحظة العام 2000، حين كسر الحصار السوري على الطوائف ومنعزلاتها، وقفز إلى تلك المصالحة الشهيرة، مجدداً بحدث واحد ويوم واحد صورة لبنان الكبير وموحداً جبله، على نحو أنهى فيه مفاعيل الوصاية بضربة واحدة قاصمة.   

في استقبال هولاند، كان جنبلاط يوجّه رسالة إلى كثيرين، بأنه ليس فقط رقماً صعباً في المعادلة، بل صانع للمعادلات. أصرّ على رمزية اللقاء في المختارة، للتأكيد على ثابتة أساسية قيلت في الدار، من قبل الفرنسيين قبل عقود، بأن من يزور لبنان ولا يزور المختارة، كمن زار روما ولم يزر الفاتيكان. أصرّ جنبلاط على عكس حميمية اللقاء بكلمته التي ألقاها، وكأنه يوصي فرنسا بأولاده، وبلبنان، إذ قال: "بعد أن بلغت شتاء العمر، أوصي أولادي بأن يحملوا مشعل الحرية من بعدي، وأوصيهم بحفظ المختارة كرمز للتسامح".