Advertise here

بسام سابا "ناي البحرية" الذي خنقته كورونا

11 كانون الأول 2020 11:05:00 - آخر تحديث: 11 كانون الأول 2020 11:46:44

 لم يُكمل بسام سابا خطّته في تحديث "المعهد الوطني العالي للموسيقى"، وفي إعادة إحياء روح موسيقى الشرق في المنهج الموسيقي الوطني، ليبقى لبنان نموذجاً للتنوع الثقافي، ومحطة التقاء الشرق والغرب في الموسيقى كما في الفكر، وسائر أنواع الحياة. 

خطفه الموت باكراً وخنقته كورونا بعد أن كبّلته مافيا الطوائف داخل وخارج المعهد الموسيقي، بالتخوين والترهيب تارة، والابتزاز بلقمة عيش الأساتذة تارةً أخرى، وهو الذي لم يتقاضَ راتبه طيلة سنتين منذ تعيينه مديراً عاماً للمعهد، وذلك بسبب البيروقراطية الإدارية، حيث ما زال ملفّه عالقاً في أدراج المستشار القانوني لوزارة الثقافة كونه عُيّن من خارج الملاك.

بسّام سابا الذي عرفته مهرجانات العالم عازفاً في فرقة الميادين مع الفنان مارسيل خليفة، يُتقن العزف على آلات شرقية عديدة من الناي إلى العود، والبزق، والكمان. وتألق في إطلالته الأخيرة في مهرجانات بيت الدِّين، حين رقص الحاضرون على نغمات موسيقى نايهِ في أغنية البحريّة. وهو من أسّس فرقةً عربيةً في نيويورك مؤلفة من موسيقيين أميركيين، وأقامت العديد من الفعاليات الموسيقية، ومنها واحدةً في مانهاتن، وحضرها أكثر من خمسة آلاف مشاهد.

بسام سابا الذي بدأ رحلته مع الموسيقى في سبعينيات القرن الماضي، كما كتبَ الفنان فائق حميصي على صفحته، "كان أصغرنا يوم تقطعت بنا السُبل في باريس، في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، فأسّسنا فرقة الميادين مع مارسيل خليفة لنعيش مما نتقن من الأعمال. وكان بسام يتقن عزف الناي والكمان، وكانت له في كل حفلةٍ فقرةً خاصة. كان أصغرنا ولا زال، واليوم أدّى فقرته الأخيرة ورحل". 

من يطّلع على موسيقى بسام سابا، "يدرك أنه غرف من التراث، والموسيقى العربية التقليدية، بقدر ما حاول تشكيل هوية جديدة للموسيقى الشرقية، وحنَّ أحياناً إلى التجريب، وعمل على التنويع في توزيع الأدوار بين الآلات على الصعيد الإيقاعي، أو على مستوى الآلات الغربية والشرقية معاً".

كتبت عنه الشاعرة ليليان يمين تقول،  "ذاك المتسلّل إلى مناطق لحنيةٍ وعزفيةٍ مفاجئة، جامعاً بين التعبير الحديث والكتابة العلمية، كما في معزوفات "على أبواب الشرق"، و"نيرفانا"، و"إلى أبي".

"هو العائد يوماً من نيويورك، وفي جعبته ألحان الجاز على نول الشرق، وكأنه كان يُجري حواراً بين الآلات الشرقية والغربية. كان عزفه يحيد قليلاً عن التراث، لكن لطالما بقيَ على الجسر الذي يربطه بالشرق، حتى في المقطوعات التي تتسم بالطابع الغربي، ليصل بين أشكالٍ وتعبيراتٍ فنيةٍ مختلفة".

لم يكن بسام سابا موسيقياً مبدعاً، وعازفا مميزاً، ومؤلفاً فذاً فحسب، بل كان مناضلاً إنسانياً، يسارياً، مؤمناً بالشراكة، وبدور المجتمع الأهلي في ترقية المجتمع فنياً وأخلاقياً. وهذا ما جمعني به في شباط 2019، قبل وصول جائحة كورونا إلى لبنان، حيث كان لقاءً طويلاً في مكتبه في المعهد العالي للموسيقى في سن الفيل. أبحرنا في هموم وشجون الفن، وبحلمه في التغيير من موقعه الجديد، كما تعرّفت منه على غنى التراث الموسيقي الشرقي ومقاماته المتنوّعة التي أحسن الغرب استخدامها وتنويطها. وكنت أعرف منه ذلك، فكان همُّ بسام ليس العودة إلى التراث فحسب، بل نفض الغبار عنه لتطويره، وإعادة صياغته من جديد بتجارب شبابية جديدة ليتناغم ويتوازن مع الموسيقى الغربية، حيث كانت تجربته في الولايات المتحدة الأميركية غنية في البحث والاختبار والتجربة. كما كان حديثنا يومها عن سُبل توسيع انتشار فروع المعهد الوطني للموسيقى، وأهمية ذلك في رفع مستوى الحسّ والذوق الموسيقي لدى الشباب والناشئة، وغايتنا في ذلك افتتاح فرعٍ في راشيا بعد أن تعهّد اتحاد بلديات البقاع الغربي- راشيّا بتحمّل أعباء التجهيز، وتأمين المكان على غرار تجارب فروع الشوف، وعاليه والشويفات. وكان متجاوباً إلى أبعد الحدود، ومتفائلاً بنجاح تلك التجربة على الرغم من الشحّ المالي الذي كان يحاصر المعهد الموسيقي، ولم نكن ندرك أن كورونا سيغزو عالمنا، ويحصد خيرة أحبائنا وكبار مبدعينا.

بسام سابا خسارةٌ إنسانية، وأخلاقية، وإبداعية. وهو خسارةٌ للتراث والثقافة العربية، وللموسيقى الشرقية والغربية على حدٍ سواء قبل أن يكون خسارة وطنية، وهذا حقٌ لمن احتضن المبدعين اللبنانيين في الخارج، وبالتالي على الدولة اللبنانية والقيّمين عليها، وكي تستحق إبداع بسام سابا وتفتخر بإبداعه حين تنعيه، أن تعتذر منه أولاً وتكرّمه بإطلاق اسمه على المعهد الوطني للموسيقى، "معهد بسام سابا" كما اقترح الفنان مارسيل خليفه، الذي نعاه على صفحته قائلاً:
"لقد انكسر مدير المعهد الموسيقي "بسام سابا" كما ينكسر السرو العالي. سحبوا منه "الناي" وعلّقوه على الهواء".

 عاد "بسّام" الى وطنه ليبحث عن نفسه في معهده الذي ترعرع في حصصه فلم يجدها. لم يكن الحنين مهنةً كافية. ليته لم يعد، ولم يتورّط بالمنفى الداخلي المدمّر. "بسّام" الإنسان الجميل العاشق الفنّان! لماذا تركناه وحيداً؟ ينقضّ عليه الليل ويتوغّل في العزلة المطلقة؟ كان وحيداً في بطن الوحش. كفر بكل شيء. اختنق بدخان الحروب من كل حدبٍ وصوب. كان إنقاذه ممكناً لو وُجد من يؤنس وحشة روحه في مدينةٍ وحشيّة. رَحل وأخذ معه الضوء. ذلك الضوء الذي تسرّب لا إلى نفوس كل من استمع إلى مقامه. كان في وسع طائرٍ عابرٍ مثل بسّام أن ينشلنا من هاوية حين يحمل نايَه خيط الأفق. ولكن الأجل امتدّ به إلى الستين من عمر سريع. 

ما زال في وسع زهرة الموسيقى أن يمتلئ وجهها جذلاً في بركةٍ ذبحوا فيها موهبة. وما أنبل الدفاع عن تلك الموهبة أمام ما في باطن بلدنا من مخزون موت. لا نريد مزيداً من الألم. لا نريد مزيداً من الموت، ومن أجل إحياء ذكراه العطرة اقترح تسمية المعهد الموسيقي ب "معهد بسّام سابا".