منذ إعلان لبنان الكبير في العام 1920، لم يواجه الكيان اللبناني خطر الزوال كما هو حاله في أيامنا هذه، فلقد تعرّض هذا البلد للاحتلال، وشهد حرباً أهلية قسّمته مناطقياً وطائفياً طيلة ستة عشر عاماً تخلّلها غياب الدولة وأجهزتها عن بعض المناطق.
لكن فكرة الدولة، ومفهوم الكيان للوطن المستقل الذي يتمتع بالسيادة، بقيا سائدَين لدى جميع الميليشيات المقاتلة، ولو تفاوتت وتناقضت حول شكلها وانتمائها، وتحالفاتها العربية والدولية.
كما أن إدارات الدولة المركزية من وزارات، ومصرفٍ مركزي، ومرافق ومؤسّسات عامة، بقيت موحّدة تديرها وتحكمها السلطة المركزية، رغم أن الموظفين فيها كانوا موزّعين عليها وفق انتمائهم الطائفي بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية.
ورغم كل ذلك لم يكن هناك خوفٌ على الكيان اللبناني من الزوال، أو حتى من التقسيم بمفهوم الاستقلال عن الدولة بإعلان دولة أخرى لها كيانها، ونظامها ودستورها الخاص بها. كما بقيَ لبنان محافظاً على موقعه المالي والاقتصادي المقبول عربياً ودولياً.
أمّا اليوم فإن خطر زوال الكيان بات داهماً ووشيكاً في ظلّ عهدٍ مزدهرٍ في إنتاج الفساد، متفوقٍ في مخالفة الدستور، وسبّاق في التنازل عن السيادة لمصلحة الجمهورية المستحدثَة والمسماة "القرض الحسن".
نعم، لقد تنازل عن السيادة لمصلحة عصابات تهريب الطحين، والمحروقات، والمواد الغذائية المدعومة، خارج الحدود، في الوقت الذى يرزح الشعب اللبناني تحت القلّة والعوز، ثم ليظهر أمام المواطنين بصفة الحامي والقاضي في آن، ويستدعي يميناً شمالاً بتهمة إهدار الدولار، وكأنّما الحدود السائبة المسيّبة، والتي تمرّ من خلالها مئات الشاحنات المحمّلة بالمواد المدعومة، لا تشكّل إهداراً للدولار الوطني، المتعلّق بلقمة عيش الشعب اللبناني.
والأنكى من ذلك هو التنازل عن السيادة النقدية، وترك قوى الأمر الواقع توزّع صرّافها الآلي ليوزّع الدولار النظيف على فئةٍ محدودةٍ من الناس، وهم مواطنو جمهورية القرض الحسن، ودون أيّ تدخّلٍ من قِبل الدولة المضيفة أو معرفة، على الأقل، مصدر دولار الحسن ومدى قدرته على التدخّل في سوق القطع للمضاربة على سعر الصرف في الجمهورية اللبنانية.
لم يكن انفجار المرفأ إلّا صورةً من صور التنازل عن السيادة العسكرية الأمنية، فالتسيّب الحدودي صورة عن انعدام السيادة الجغرافية. وقرار إعلان السلم والحرب ما هو إلّا تنازل عن السيادة الدفاعية، ومنع تشكيل الحكومات. وتعطيل مجلس النواب لفرض رئيسٍ للجمهورية هو تنازل عن الجمهورية بكاملها لمصلحة جمهورية القرض الحسن، والآتي أعظم.
وإذا ما بقيَ الوطن ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، فسوف نرى جمهوريات متعدّدة تتمدّد وتتوسع لتُنهي ما تبقّى من كيان لبنان الكبير.