Advertise here

شركة سائبة من دون مدير

09 كانون الأول 2020 10:41:43

قبل ثلاثة أيام، مرّت الذكرى السنوية لميلاد الزعيم كمال جنبلاط، فأعادت إلى أذهان اللبنانيين أياما مضيئة كان يقود الحياة السياسية فيها رجالٌ آمنوا بأن الأخلاق والقيم الوطنية هي مرشد الممارسة السياسية ونبراسها. رجالٌ من قامة كمال جنبلاط وفؤاد شهاب وريمون ادّه ورشيد كرامي والامام موسى الصدر، وسواهم، آمنوا بأن لا شيء يعلو على واجب حماية الكيان الوطني وسموّ القانون واحترام المؤسّسات.

 

وفي المناسبة، أحسن وليد جنبلاط في وصف تقهقر أوضاع البلاد بالتوازي مع انحدار مفهوم #الدولة، الذي هبط من زمن القادة الكبار إلى درجة أدنى في العصر السوري مع شعار "شعبٌ واحدٌ في دولتين". وهو شعارٌ أضعف الدولة لكنّه لم يصل إلى حدّ إلغائها، كما جرى في المرحلة المأسوية الراهنة من تاريخ لبنان.

ذابت الدولة اللبنانية وتكاد تختفي آثارها مع وجود جيشين على أرض واحدة، وبسبب طريقة تطبيق اتّفاق الطائف، التي توافق عليها السياسيون رغم اختلافاتهم. فلم يعد في لبنان مركزٌ جامع أو مرجعية واحدة بعد التهافت على تقاسم هيكل الدولة و"تناتش" ما بقي منها من منافع ووظائف ومراكز نفوذ ومال حرام. بات لبنان أسرة بلا والد يرعاها وشركة سائبة من دون مدير.

 

اضمحلال الدولة ودورها هو المسؤول عن وصول لبنان إلى حافّة الانهيار. ليس لأن تسيّب الدولة مسؤولٌ عن أسباب الأزمة فحسب، بل، أيضا، لأن الدولة عاجزة، في الوضع الخطير الراهن، عن تدارك الأسوأ وإنقاذ شعبها من الجوع.


خلال القرن الذي مضى، كلما تعرضت البلدان المتقدّمة للانهيار المالي أو الاقتصادي كانت الدولة تندفع بكل قواها لإنقاذ الاقتصاد، وفي يدها إجراءات غير عاديّة وتخفيضات ضريبية وأموالٌ طائلة تضخّها بسخاء، ولو على حساب توازن الموازنة وزيادة العجز والدين العام.

بُعيد سبعينات القرن الماضي تعرّض دور الدولة في البلدان الصناعية لانتقادات قاسية، واتّهمت الحكومات التي تبنّت الأفكار التدخلية للاقتصادي الإنكليزي كاينز بأنها مسؤولة عن كبح النموّ وزيادة البطالة وترتيب ديون طائلة على الدولة. دفعت الليبرالية الجديدة الدولة منذ بداية الثمانينات إلى الحدّ من تدخّلها في الاقتصاد والكفّ عن مراكمة الديون. ولكن، كلما واجهت المجتمعات الغربية أزمات وانهيارات اقتصادية كبرى كانت الدولة تتخلّى عن هذه التحفظات وتندفع بقوّة لإنقاذ الاقتصاد.

 

الدولة اللبنانية المفكّكة والعاجزة والفاقدة للرؤية لم تتحرّك لمساعدة الاقتصاد رغم وصول الأمور إلى حدود المجاعة والإفلاس، فيما البلاد غارقة في دوّامات الجدل العقيم حول الأزمة السياسية وسعر الصرف ومسائل دعم الاستيراد.

 

يكابد وزير المال غازي وزني، وحيدا، لإنجاز مشروع موازنة العام المقبل، رغم كل الظروف التي تعيشها البلاد، فهو يدرك أضرار إدارة الدولة من دون موازنة والفوضى التي تترتّب على المالية العامة لسنوات، بعد كل سنة لا تقرّ فيها موازنة عمومية. وليست مهمّة الوزير وزني سهلة على الإطلاق، لأن فوضى سعر الصرف وانفلات معدّلات التضخّم وصعوبة التوقّعات السياسية تحول كلها دون وضع تقديرات موثوق بها للنفقات والإيرادات. وهو ينطلق لوضع أرقامه من ثلاث مسلّمات: ثبات اعتمادات الرواتب، والأعباء المتزايدة في موازنة وزارة الصحّة، وعدم إمكان زيادة الإيرادات العمومية على المدى القصير.   

 

نتائج الفترة المنصرمة من العام الجاري تعطي مؤشّرات مقلقة حول المالية العامّة وتحول دون الأمل برصد اعتمادات لدعم الاقتصاد، حتى لو توافرت العزيمة عند الحكومة، وهي غير متوافرة. وبحسب التقرير الأخير للبنك الدولي في بيروت، يتوقّع في العام الجاري انخفاض عجز الموازنة بحوالى 4،7 نقاط مئوية ليبلغ 5،9 في المئة من الناتج المحلي. إلا أن هذا الانخفاض ليس ناجما عن تطوّرات صحية، بل هو نتيجة الوهن في الاقتصاد ومالية الدولة. فالإيرادات الضريبية وغير الضريبية يُفترض أن تتراجع هذا العام نتيجة الانقباض الحادّ في النشاط الاقتصادي، مقابل تراجع النفقات بسبب شلل الإدارة الحكومية وعجزها وتقلّص نفقات الفائدة بعد توقّف الدولة عن سداد ديونها الأجنبية. 

 

لا أمل بقدرة الدولة على التقدّم لإنقاذ الاقتصاد، فيما تجارب الدول التي تعرّضت للانهيارات تفيد أن لا خروج من العاصفة من دون مبادرات شجاعة وخلّاقة من الدولة