لبنان: ماذا بعد استقالة الحكومة؟

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

استقالت الحكومة اللبنانية في ظروف سياسية وأمنية داخلية وإقليمية بالغة الدقة والتعقيد. ودخل لبنان مرحلة جديدة من التأزم مفتوحة على احتمالات كثيرة قد لا تكون كلها واضحة ومدروسة أمام الذين دفعوا في اتجاه أخذ القرار، وأمام الذين تعاملوا معه بتسّرع ورد فعل يحتكم لمنطق القوة والتحدي.

الوضع الداخلي مأزوم، لا ثقة بين قيادات المكّونات الأساسية في البلاد. الحوار مقطوع، والخطاب السياسي متشنّج، والاتهامات المتبادلة خطيرة. الحسابات السياسية ضيقة وصغيرة تحكمها روح السيطرة والربح الآني السريع على حساب الاستقرار العام ومصالح الناس.

الإدارات شبه مشلولة، الفوضى عارمة فيها، الاقتصاد إلى تراجع. الانكفاء عن الاستثمار في لبنان مستمر. الأمن فالت، خطف على الهوية المذهبية، خطف على الطلب. قلق في كل مكان، تسريبات عن عودة مسلسل الاغتيالات، ربط بين آثار استقالة الحكومة والتحذير من الاغتيالات، اعتداءات إسرائيلية دائمة على لبنان براً وبحراً وجواً. وتصريحات واضحة خلال الأيام الأخيرة أشار فيها عدد من القادة العسكريين الإسرائيليين إلى أن الوضع على الحدود قد يدفع بإسرائيل مجدداً إلى التركيز على الجبهة اللبنانية والقيام بعمل أمني واسع لمواجهة ما يأتي منها من أخطار! ترافق هذا الكلام مع حركة ميدانية ملحوظة على الأرض، والحدود الجنوبية متوترة، والحدود الشمالية تشهد توتراً وأعمالاً لا تقل خطورة. النظام السوري يهدد بتوجيه ضربات لـ «المعارضة السورية» داخل الأراضي اللبنانية متهماً إياها بإقامة معسكرات تدريب والانطلاق في أعمال أمنية ضده. وقوات النظام تنفذ التهديد، تقصف مناطق معينة، ويقع خلاف في لبنان حولها داخل الحكومة قبل استقالتها ومستمر بعدها بين الفرقاء اللبنانيين عموماً.

والخارجية الروسية تصدر بياناً لافتاً تشير إلى استخدام المعارضة السورية الأراضي اللبنانية على الحدود لتهريب السلاح وإرسال المقاتلين إلى سوريا. يخشى البعض أن يكون هذا الموقف تغطية للتدخل السوري. آثار التهديد السوري والأزمة السورية تجسّدت أكثر وضوحاً في مدينة طرابلس، حيث تجدد القتال فيها، وصدرت تهديدات بقصف المدينة من جبل محسن. وحصلت مواجهات بين«الجبل» و«المدينة»، أخذت بعداً مذهبياً. الأجواء متوترة ومشحونة في البقاع على الحدود اللبنانية – السورية أيضاً. الوضع الداخلي متوتر، المخيمات الفلسطينية تشهد مشاكل أمنية يومية، وتسريبات عن احتمال استهداف قوات الأمم المتحدة في الجنوب، وتحريك الشارع في سياق الضغط السياسي الداخلي. مخطوفون لبنانيون في سوريا لم تحل قضيتهم بعد، بل عادت إلى الشارع، مخطوفون لبنانيون في نيجيريا، خوف على مصالح اللبنانيين في أفريقيا وعدد كبير من الدول القريبة والبعيدة. اتهامات متتالية لـ«حزب الله» بتنفيذ عمليات في الخارج أو مشاركة عناصر منه في التخطيط لعمليات معينة ضد مصالح إسرائيلية. تركيز أميركي – غربي على الدور «الإرهابي» للحزب، ومطالبة بإدراجه على لائحة «الإرهاب» رسمياً في أوروبا وغيرها. قمة عربية في الدوحة، والمعارضة السورية تأخذ موقع سوريا. معاذ الخطيب رئيس «الائتلاف الوطني السوري» يُلقي كلمة سوريا. قرار يؤكد حق كل دولة عربية في تقديم السلاح للمعارضة السورية. خطوات يرفضها النظام. ترفضها روسيا وإيران وتعتبر أنها غير مشروعة. لبنان نأى بنفسه نظرياً عن هذه القرارات، لكن الواقع على الأرض مختلف، فالخوف من تدخل بعض اللبنانيين في سوريا، ومن تدخل قوات النظام السوري في لبنان، ومن تداعيات الأزمة السورية كبير جداً.

في هذا الوضع تأتي استقالة الحكومة اللبنانية، وأمامنا استحقاق الانتخابات. مجلس النواب الحالي تنتهي ولايته في الأسبوع الأخير من شهر يونيو المقبل، والانتخابات المقبلة مهمة جداً، والخلاف عميق جداً حول قانون الانتخابات الذي لم يحسم بعد، وأخذ بعداً كبيراً، هو واحد من أسباب التوتر في البلاد. لا اعتراف من قبل البعض بالقانون الموجود حالياً المسمّى قانون الـ 60، ولا إقرار لقانون جديد ولا حكومة. فهل يمّر الوقت دون إجراء الانتخابات؟ هل يبقى لبنان دون حكومة؟ دون مجلس؟ وبعد أشهر تنتهي ولاية رئيس الجمهورية؟ وهل يربط كل شيء بالتطورات في سوريا؟ وماذا لو تأخر وضوح الصورة هناك؟ هل يستمر لبنان في فراغ، في ظل المخاطر التي أشرنا إليها؟ هل ندخل في الفوضى الشاملة؟

مرّت سنتان صعبتان علينا منذ اندلاع الأحداث في سوريا. الاتجاه الدولي كان مع تحييد لبنان وإبعاده عن تداعياتها. كانت فرصة لنا لنستفيد. نحمي الاستقرار الأمني والسياسي ونعزّز الوضع المالي والاقتصادي دون مبالغات، نحن ، فرطنا بهذه الفرصة. ودفعنا الثمن، وعرضنا أمننا واستقرارنا للخطر. اليوم، الوضع بات أصعب، والتعقيدات الإقليمية والدولية كثيرة، متشابكة ومقلقة. الوضع في سوريا يزداد خطورة. والسؤال: ألا يزال الاتجاه الدولي يميل إلى تحييد لبنان أم تغيّرت الظروف والمعادلات والحسابات؟ وفي هذا التوقيت جاءت استقالة الحكومة اللبنانية فماذا نفعل؟

إذا كان الاتجاه الدولي لا يزال ثابتاً على خيار تحييد لبنان وحمايته من آثار الأزمة السورية فهذا جيد، وعلينا التوقف عن تضييع الفرص. ينبغي أن نذهب إلى تفاهم بيننا يعيد الأمور إلى نصابها ويغلّب مصلحة لبنان واللبنانيين على مصالح القوى الموزعة بين المحاور المتصارعة في سوريا وعليها، وامتداداً في لبنان وعليه… وإذا كان الاتجاه قد تغير، فهذا يعني المزيد من الخطر الذي يحدق بلبنان. وهذا يفرض أكثر وأكثر ضرورة الذهاب إلى التفاهم، وإلا نكون قد حولنا أنفسنا إلى أدوات في لعبة الكبار، أو إلى شهود زور في أحلى الحالات، عاجزين عن القيام بأي عمل، لقد جربنا ذلك سابقاً ودفعنا الثمن الكبير، فلا يجوز أن نقع في المطب مرة أخرى. يخطئ من يتعاطى مع استقالة الحكومة على قاعدة أنها انتصار له. للانتقام وتصفية الحساب. ويخطئ في الجهة الأخرى من يتعاطى مع الأمر على قاعدة أنه تحدٍ وقد قبله على أساس «علّي وعلى أعدائي يا رب» بكثير من الاستعلاء والفوقية والمكابرة.

ليس ثمة انتصار لأحد، ولا يجوز أن يكون انكساراً لأحد، لأن المنكسر في النهاية سيكون لبنان، وسيخسر كل اللبنانيين. سنخسر أمننا واستقرارنا ووحدتنا وسلامنا وسلامة اقتصادنا وإنجازاتنا في وجه العدو الإسرائيلي وستضيع أحلامنا.

اللبنانيون محكومون باتفاق الحد الأدنى على الأقل لتمرير هذه المرحلة. فلنذهب إلى تسمية رئيس لتشكيل الحكومة الجديدة، ولنتفق على بلورة مشروع قانون الانتخابات بعد أن اتفقنا على فكرة المشروع المختلط- نسبي وأكثري- فنجري الانتخابات متجاوزين الفراغ، محترمين الدستور، منطلقين نحو مرحلة جديدة تحفظ أمن لبنان.