الازمة القبرصية تحدٍ آخر امام السياسة الروسية

د.ناصر زيدان

منذ ايام الاتحاد السوفياتي، كانت روسيا وقبرص على علاقة مميزة، وقد وقَّع البلدان على معاهدة تُشبه مثيلاتها من المعاهدات التي كانت تربط موسكو مع الدول التي تدور في الفلك الشيوعي، برغم ان قبرص تنتمي الى المعسكر الغربي. والمعاهدة كانت تعفي الشركات السوفياتية والافراد من الضرائب على تحويل الاموال والارباح.

استغلت الشركات الروسية هذه المعاهدة عند انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، واسست لها فروع في الجزيرة المتوسطية، وتطور الامر الى نشاط مالي غير مسبوق بين روسيا وقبرص، شمل الافراد، بحيث وصل عدد الشركات الروسية في قبرص الى 2800 شركة ، منها شركة” غازبروم” العملاقة، ساعد هذا الانتشار التعاطف الديني الذي يُكنُّه شعبا البلدين لبعضهما البعض، على خلفية الانتماء للديانة الارتوذكسية.

لم يَعُد سراً ان جزء اساسي من النشاط الروسي ربما انطلق من عملية غسل لأموال كسبها بعضهم من بيع غير مشروع لممتلكات الدولة السوفياتية، ومن عمليات التهريب، لاسيما تهريب المحروقات المدعومة من الدولة الى الاسواق الاوروبية. حصل ذلك في اجواء من الترهل والضياع عاشتها الدولة الروسية ايام الرئيس السابق بوريس يلتسين، وكانت مؤسسات هذه الدولة تفتقد للتشريعات، بعد ان أُلغيت القوانيين الشيوعية.

وصل حجم الودائع للافراد والشركات الروسية في البنوك القبرصية الى مبلغ تجاوز ال20 مليار اورو، يضاف اليه مبلغ 12 مليار اورو عبارة عن ودائع للمصارف الروسية في بنوك الجزيرة. فاصبحت قيمة الاموال الروسية اكثر من ثلث مجمل الودائع في البنوك القبرصي، التي تُقدر ب 90 مليار اورو، مما جعلها محط انظار القوى الاوروبية التي تتوخى التغلغل الروسي، خصوصاً ان قبرص دخلت الى الاتحاد الاوروبي في العام 2004، وبدأت في استخدام العملة الاوروبية الموحدة” الاورو” في العام 2008.

البنوك القبرصية مُقفلة منذ اسبوع، والرئيس القبرصي الجديد نيكوس اناستاسياديس قال: ان البلاد تعيش اسوأ ازمة في تاريخها منذ الدخول العسكري التركي الى شمال الجزيرة في العام 1974. والاتحاد الاوروبي اشترط لدعم البلاد ب 10 مليار اورو، وانقاذها من الافلاس، ان تلجأ الدولة الى تحصيل ما يقارب ال 7 مليار اورو من اموال المودعين، في اشارة اعتبرتها روسيا على لسان رئيس الحكومة ديمتري مدفيديف استهدافاً لها، ولا يمكن القبول بها، ولكن البرلمان القبرصي صوت ضد تبنِّي هذا الاقتراح، الذي يفرض اقتطاع 6.75،% من الودائع تحت مبلغ 100 الف اورو، و9،9% من الودائع فوق هذا المبلغ، ولكن رفض البرلمان القبرصي للمقترح اعاد المُعضلة الى المربع الاول، واصبحت الازمة مفتوحة تهدد بخروج قبرص من منطقة اليورو، كما تؤثر على الاقتصادات المجاورة، التي لم توافق على الاقتراح الاوروبي، لأنه قد يُصبح سابقة يمكن اعتماده في بلدانٍ اخرى.

الارتباك الروسي في مواجهة الكبوة المالية في قبرص واضح للعيان، والرئيس فلاديمير بوتين اكد انه لن يسكت عن مصادرة اموال المواطنيين الروس تحت اية ذريعة، وندد بالاقتراح الاوروبي، وهو لم يستقبل وزير المالية القبرصي الذي طار الى موسكو طالباً المساعدة في ايجاد حل للأزمة.

غاز بروم ، اكبر شركة غاز في العالم، والتي تخضع لمونة الرئيس بوتين ، اقترحت ان يتم تلزيمها استثمار الغاز والنفط الموعود في المياه القبرصية، في مقابل تدخلها لإنقاذ الدولة القبرصية من الافلاس، عن طريق تقديم تسهيلات مالية كبيرة. علماً ان موسكو كانت قد منحت قبرص قرض بقيمة 2.5 مليار اورو في العام 2011.

  الاقتراح الروسي يعتبر تحدٍ واضح للإتحاد الاوروبي في عقر داره، وسيترك تداعيات على العلاقة الفاترة بين الطرفين، على خلفية تباين موقفهما من الاحداث السورية. كذلك الامر بالنسبة لتركيا التي تسيطر على اكثر من نصف الجزيرة القبرصية، وهي على خلاف متفاقم مع موسكو حول سوريا ايضاً.

موسكو لن تتساهل بخسارة اموال رعاياها في قبرص، والاتحاد الاوروبي لن يُقدِم على خطة انقاذ مجانية ، اكبر المُستفيدين منها روسيا، وقبرص بالنسبة اليه ليست بأهمية اسبانيا، او ايرلندا، او البرتغال.

الحكومة الالمانية كشفت المستور فيما يتعلق بالتباين مع روسيا حول قبرص، وقالت انها لن تساهم في المساعدة قبل ان تتأكد من ان الحكومة القبرصية اتخذت اجراءات تظبط غسيل الاموال، وتُلغي التشريعات المَرِنة التي تستفيد منها الشركات الروسية، خصوصاً في الاعفاء من الضرائب على الارباح، وفي تدني نسبة الضرائب الاخرى.

روسيا تُوسِّع دورها في الشرق الاوسط، ولكنها امام تحديات جديدة، ليست رابحة بالضرورة.