قبل السقوط في الفوضى الدستوريّة!

رامي الريس (الجمهورية)

إستذكار كمال جنبلاط على مشارف ذكرى استشهاده، من شأنه أن يعيد طرح مجموعة من العناوين والملفات السياسيّة العالقة والتي تتعثّر كلما تقدّم الزمن بدلاً من أن تُعالَج بصورة جذريّة. فمجرّد تكرار العناوين التي نادى بها منذ أكثر من ثلاثة عقود يُبيّن كم كان رؤيوياً وطليعياً في متابعة القضايا الكبرى.

إنّ عقم النظام السياسي اللبناني لا يزال قائماً، لا بل لعله أصبح أكثر صعوبةً وتعقيداً مع انحداره الدراماتيكي السريع نحو المذهبيّة المقيتة، معطوفاً بالطبع على واقع إقليمي لا يخلو من الصراعات المذهبيّة، لكي لا نقول إنها أبرز سماته الرئيسيّة.

من هنا، فإن فشل اللبنانيين في التفاهم على الثوابت الوطنيّة الكبرى من شأنه أن يعرقل مسيرة الاستقرار ويجعلها عرضة بصورة دائمة للاهتزاز أو السقوط، كما في حالات اندلاع الحروب والاقتتال والتوتر.

فما طُرح من مشاريع قوانين انتخابيّة، لا سيّما ما عُرف بقانون اللقاء الأرثوذكسي، من شأنه تأبيد الحال الطائفيّة في البلد، على عكس ما يُروِّج لها بعض من صاغوه بأنه في مثابة مرحلة انتقاليّة. فالكثير من الأمور المؤقتة في لبنان تتحوّل بحكم الأمر الواقع وبسبب غياب البدائل إلى أمور دائمة، فكيف إذا كانت تتصلُ بمصالح الطوائف والمذاهب وتمسّ بمواقعها وامتيازاتها التي سيكرّسها هذا القانون المشؤوم؟

واضحٌ من الخطابات السياسيّة لبعض القوى أنها تضع اللبنانيين بين خيارين: إما الموافقة على القانون الانتخابي الذي يلبّي مصالحها أو “تطيير” الانتخابات، وكلاهما لا يصح قياساً إلى واقع التوازنات اللبنانيّة الدقيقة، وإلى التجارب التاريخيّة المعاصرة.

فهل تتحمّل هذه القوى مسؤولية الفوضى السياسيّة والدستوريّة، وربما الأمنيّة، التي ستنشأ بفعل تأجيل الانتخابات النيابيّة إلى أجل غير مسمّى، كما ترغب؟ هل تناست هذه القوى أن جدلاً دستورياً ظل قائماً في البلد في مراحل سابقة يتصلُ بالنصاب القانوني المطلوب لانتخاب رئيس جديد للجمهورية (النصف + واحداً أو أكثريّة الثلثين) وأُقفل هذا النقاش من دون جواب حاسمٍ حتى اللحظة؟

إذا كان الدستور في لبنان بمثابة وجهة نظر، وإذا كان أصبح أمام اللبنانيين العشرات من “الجهابذة” في الفقه الدستوري الذين يملكون الاستعداد الدائم لتحويل مفهوم هذه المادة الدستورية أو تلك بحسب انتماءاتهم السياسيّة أو الطائفيّة، فمَن الذي سيُخرج البلاد عندئذٍ من المأزق الدستوري؟

ومن سيحسم الخلافات في الرأي حول استمراريّة الحكومة الراهنة ودستوريتها في حال التمديد للمجلس النيابي؟ ووفق أيّ أسس سيتم انتخاب رئيس جديد للجمهورية مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان سنة 2014؟

لا شك في أن هذه المغامرة المستحيلة ستكلف لبنان واللبنانيين أثماناً باهظة. فالتعثر الاقتصادي سيتفاقم، والنمو سيتراجع، والترهل الإداري سيزداد، والملفات المعيشيّة والخدماتيّة ستبقى معلقة، ومخاطر الانكشاف الأمني سترتفع.

فلماذا هذه الصبيانيّة السياسيّة؟ هل ان إدخال البلاد في الفوضى الدستورية يحصّنها إزاء أيّ اعتداءات إسرائيليّة محتملة في أي وقت بفعل الطبيعة العدوانيّة الإسرائيليّة ورفضها التاريخي التجربة اللبنانيّة التعدديّة التي تشكل نقيضاً فاضحاً لتجربتها الآحاديّة؟

وهل يحميها من حمم البركان السوري المتطايرة، خصوصاً مع انسداد كل آفاق التسوية السياسيّة السورية وتنامي المؤشرات التي تقول إنّ الأزمة في سوريا ستطول كثيراً في ظل تقدم حال التوازن السلبي بين النظام والمعارضة وعدم قدرة أي منهما على إلغاء الآخر؟.

حبذا لو أن بعض الأفرقاء يعيدون قراءة تطورات المشهد الإقليمي المعقّد بهدوء وعمق وبعيداً عن الضوضاء والضجيج ويعيدون صياغة مواقفهم السياسيّة بأقل قدر ممكن من الفظاظة.

لقد اكتوى اللبنانيون بما فيه الكفاية من نيران الحروب الداخليّة والخارجيّة على أرضهم، وأدّوا دور صندوق البريد لتبادل الرسائل الدوليّة والإقليميّة المُفخّخة لما يزيد عن أربعة عقود، وآن الأوان أن يستحقوا العيش الكريم وينالوا قسطاً من الطمأنينة والسكينة والاستقرار.

اللبنانيون أمام فرصةٍ نادرةٍ ليثبتوا لأنفسهم بالدرجة الأولى، ولجيرانهم بالدرجة الثانية، وللعالم أجمع بالدرجة الثالثة، أنهم يملكون ما يكفي من الوعي والحكمة والعقلانيّة والشجاعة ليمسكوا بأيديهم شؤونهم الوطنيّة بعيداً عن مفاهيم الاحتلال والوصاية.

الاستحقاق الانتخابي هو، في أحد أشكاله، أحد الامتحانات الجديّة في هذا المجال. فلماذا يكون الفشل فيه محتوماً؟ ولماذا لا يقدّم المجتمع السياسي اللبناني صورةً إلى الرأي العام بأنه قادر على إنتاج تفاهمات وطنيّة من دون مساعدةٍ خارجيّة؟

لقد كتب كمال جنبلاط في الماضي عبارة شهيرة جاء فيها: “إن القيادة الجديدة القادرة على بناء استقلال لبنان الحقيقي ليست قيادة إسلامية ولا هي قيادة مسيحية. إنها قيادة وطنية لبنانية، علاقتها هي بشعب لبنان الواحد، وبلبنان الشعب الواحد”.

ألا يزال ينطبق هذا الكلام على يومنا هذا؟

اقرأ أيضاً بقلم رامي الريس (الجمهورية)

ماذا وراء دعوات جنبلاط الحواريّة؟

ماذا بعد تفجير الضاحية الجنوبيّة؟

ثورة لاستعادة الثورة المسلوبة

الجيش: ماذا بعد صيدا؟

خامنئي- روحاني- قوروش!

عندما ستدير أميركا ظهرها!

تنظيم الخلاف السياسي: هل هو ممكن؟

عندما سيطوف البركان السوري على لبنان!

هل تخدم الفتنة منطق «الممانعة»؟

عندما تُنقذ إسرائيل النظام السوري!

على مشارف الفوضى الإقليميّة!

تلاقي الأضداد بين لبنان وسوريا!

الثورات العربيّة وحقوق الإنسان!

في ذكرى الحرب: هل تعلّمنا الدرس؟

عندما تتداخَل ألسنة اللهب!

عن حقوق الإنسان والديموقراطيّة

كيف نخرج من القرون الوسطى؟

الأرثوذكسي والشمبانيا!

سياسات التصفية والنتائج العكسية

التحوّلات العربية وسياسات الإنفاق!