كيف نخرج من القرون الوسطى؟

رامي الريس (الجمهورية)

تنبَري بعض الأصوات السياسية للتحذير من إجراء الانتخابات النيابية المرتقبة في مواعيدها الدستورية المحددة، محذرةً تارةً من تنامي المصاعب التقنية في ظل عدم حصول توافق على قانون انتخابي جديد، وطوراً تتذرع بتطورات الأوضاع السورية التي تشير كل الدلائل إلى أنها تتجه نحو المزيد من التأزم والتعقيد مع عدم بروز أيّ تسوية سياسية في الأفق، وبسبب التحوّل التدريجي للساحة السورية لتكون موقعاً للاحتراب بين القوى الدولية المتصارعة على حساب الشعب السوري.

إنّ استسهال طرح تأجيل الانتخابات النيابية وإيهام الرأي العام اللبناني أن الظروف الداخلية والإقليمية لا تتناسب مع حصولها، بسبب حراجة الوضع الأمني وحساسيات الانقسام السياسي، يطرح الكثير من علامات الاستفهام. إذ إنه من غير المفهوم، أو المقبول، أن نرى المنطقة العربية تُسفَك فيها الدماء وتُبذل التضحيات الثمينة من الشعوب لتخرج من قمقم الديكتاتورية والتسلط، وتذهب رويداً رويداً نحو الديموقراطية وإجراء الانتخابات، فيما لبنان الذي يخوض الانتخابات منذ ستين سنة، ولو شابَ الكثير منها عثرات ومشاكل، يتراجع إلى الخلف!

مهما كانت التوصيفات التي تُطلَق على التطورات البالغة الأهمية التي تعيشها المنطقة العربية، فهي من إرهاصات التحول الديموقراطي. فالعودة إلى تاريخ الثورات، يؤكد أن الكثير من البلدان عاشت مراحل صعبة ودموية قبل الوصول إلى بناء الاستقرار وانتظام الحياة الدستورية والسياسية والديموقراطية فيها. والدول العربية لن تشكل حتماً استثناءً عن هذه القواعد الجوهرية.

من هنا، فإنّ أيّ مغامرة بتأجيل الانتخابات النيابية اللبنانية هي خطوة تراجعية غير مسبوقة، ولم تحصل إلّا في سنين الحرب الأهلية الطويلة عندما تمّ التمديد مراراً لمجلس العام 1972. فالظروف الأمنية وانشطار البلاد إلى جزر منعزلة، وغياب التفاهم السياسي آنذاك، حال دون إجرائها وحتّم التمديد. أما اليوم، فإن الوضع لا يماثل حقبة الحرب الأهلية بأيّ شكل من الأشكال.

صحيحٌ أن الملفات الخلافية بين اللبنانيين كبيرة وعميقة، وفي طليعتها مسألة السلاح والمحكمة الدولية والموقف من الأزمة السورية، إلاّ أنّ كل ذلك يفترض أن لا يكون عائقاً أمام إجراء الانتخابات، لا بل على العكس، من الممكن أن يشكل مناسبة لإعادة استفتاء الرأي الشعبي حيال هذه القضايا المصيرية الكبرى.

لقد بيّنت كل التجارب السابقة أن لبنان قائم على توازنات داخليّة دقيقة، وأثبَتت كذلك أن كل المغامرات التي تناوبت عليها الاطراف السياسية الداخلية المختلفة (بدعم وتوجيه ومتابعة خارجية طبعاً) التي ارتكزت على محاولة إقصاء أو تهميش أو إضعاف هذا الطرف أو ذاك لم يُكتب لها النجاح، لا بل إنها دفعت البلاد نحو الاقتتال والحروب والتوتر. ومعادلة التوازنات إيّاها هي التي حتمّت على الأطراف المتحاربة ذاتها أن تجلس حول الطاولة وتتوصل لبناء تفاهمات سياسية وتسويات للأزمة.

المعادلة لا تزال هي هي، والحلول ستبقى هي هي. قدرة أي فريق لبناني، مهما بلغت قوته، على إلغاء أيّ فريق آخر، غير متوافرة. لذلك، لا بد من الانطلاق من هذه المقاربة في معالجة أيّ من الملفات الداخلية اللبنانية، والانتخابات النيابية أحدها. صحيحٌ أن الأحزاب السياسية، في إطار الحملات الانتخابية، غالباً ما تقدم المسألة على أنها مسألة مصير ومسار، وحياة أو موت، وأن لبنان على مفترق طرق وعلى الناخبين الاختيار بين أحد مشروعين، أحدهما يفضي إلى الجنة والآخر إلى جهنّم، إلّا أن حقيقة الأمور أن الدورتين الانتخابيتين الأخيرتين (2005 و2009) أكدتا أنّ التوازن السياسي القائم متقارب ومتقارب جداً، وأنّ أيّ فريق منتصر لا يستطيع حكم البلاد من دون الآخر.

قد يقول قائل إنّ تجربة حكومة الوحدة الوطنية لم تنجح، وتجربة أن يحكم فريق ويعارض فريق آخر لم تنجح هي أيضاً. ربما هذا صحيح. إلّا أن السبب ليس مرتبطاً بشكل الحكومات والمعارضات بقدر ما هو يتصل باختلاف اللبنانيين حول الثوابت الوطنية التي كرّس جزءاً منها اتفاق الطائف، إلّا أنه لم يُترجم فعلياً في العديد من المواقع السياسية.

اللبنانيون أمام فرصة ذهبية ليثبتوا لأنفسهم أولاً، وللعالم ثانياً أنهم يملكون القدرة على إدارة شؤونهم الذاتية بأنفسهم، وأنهم قادرون على التوافق على قانون للانتخاب وتنظيم انتخابات ديموقراطية حرة، وأنهم لا يحتاجون إلى يَد الوصاية لتأخذ بهم إلى حيث تريد، بل إنهم يستطيعون أن يأخذوا بأيدي بعضهم البعض إلى حيث المصلحة الوطنية العليا.

ليس هذا الكلام من قبيل الأمنيات أو التنظير الأفلاطوني، بل من قبيل لفت النظر إلى ضرورة عدم دفع اللبنانيين إلى حافة اليأس مرة أخرى، تكفيهم مآسيهم في الكهرباء والماء والهاتف الخلوي والعشرات من الملفات المعيشية الأخرى، وكأنهم لا يزالون يعيشون في القرون الوسطى!

اقرأ أيضاً بقلم رامي الريس (الجمهورية)

ماذا وراء دعوات جنبلاط الحواريّة؟

ماذا بعد تفجير الضاحية الجنوبيّة؟

ثورة لاستعادة الثورة المسلوبة

الجيش: ماذا بعد صيدا؟

خامنئي- روحاني- قوروش!

عندما ستدير أميركا ظهرها!

تنظيم الخلاف السياسي: هل هو ممكن؟

عندما سيطوف البركان السوري على لبنان!

هل تخدم الفتنة منطق «الممانعة»؟

عندما تُنقذ إسرائيل النظام السوري!

على مشارف الفوضى الإقليميّة!

تلاقي الأضداد بين لبنان وسوريا!

الثورات العربيّة وحقوق الإنسان!

في ذكرى الحرب: هل تعلّمنا الدرس؟

عندما تتداخَل ألسنة اللهب!

قبل السقوط في الفوضى الدستوريّة!

عن حقوق الإنسان والديموقراطيّة

الأرثوذكسي والشمبانيا!

سياسات التصفية والنتائج العكسية

التحوّلات العربية وسياسات الإنفاق!