قليلٌ من بُعد النظر واجب.. ليحيا لبنان!

من أهم أقوال المعلم الشهيد كمال جنبلاط قوله إن “السياسي الحقيقي، أي رجل الدولة، يجب أن تكون له دائمًا عين على المبادئ يستلهم منها مواقفه وتصرّفاته، وعين أخرى على الواقع المحيط بتطبيقها”.

والمراقب لسياسة الحزب التقدمي الإشتراكي، تاريخياً حتى اليوم، ومنذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية تحديداً، يدرك أن قيادته تسير بتوجيهات المعلم الشهيد في قوله المأثور هذا بحرفيّته. فهي لطالما حافظت على الثوابت من جهة وفي مقدمها المصالحة والسلم الأهلي والعيش المشترك محلياً والعداء لاسرائيل وحدها اقليميا ودولياً، واحتفظت من جهة ثانية بمرونة قلّ نظيرها إن لناحية الأداء السياسي المتغيّر وفق آنية المعطيات والظروف أم لناحية متطلبات وتحديات كل مرحلة أو حقبة سياسية، وهو ما يروق لبعض محدودي النظر والنظرة وصفه بالتقلبات الجنبلاطية!

ولعل إحدى المفارقات اللافتة تكمن في شبه إجماع محلي وإقليمي بل دولي من قبل “جهابذة” السياسة الحقيقيين، على مقدار الحنكة التي تتمتع بها قيادة “التقدمي” بحيث نراها تحور وتدور، تُحالف بحكمة وتُخالف بشرف، تصالح بكبرياء وعلى قاعدة الندّ للندّ دون ان تذوب يوماً بصلحٍ او صداقة ، وتخاصم بحدّة وحزم إنما على قاعدة الاختلاف بما لا يتعدى حدود اعادة التموضع وفقاً للظروف، تقول لهذا كن فيكون وتقول لذاك زُل فيزول، دون أن يرف لقاعدة الثوابت الاساسية عندها جفنٌ.

ولا شكّ بأن هذا الأداء السياسي الممهور بفن الممكن وجمال التسوية والمقيّد بالحس الوطني العالي ولا شيء سواه، يغيظ “المعجبين” بتلك الحنكة التقدمية، لادراكهم يقيناً ان تلك المرونة كانت ولما تزل العامل الاكثر تأثيراً في صمود قيادة الحزب وفي حفاظها على قوة التأثير في القرار السياسي، ما جعل الجميع يخشاها من جهة، ويتوق لإرضائها من جهة ثانية!

أما المفارقة الأكبر والأكثر هزلاً في أيامنا، فتكمن صراحةً في إمعان البعض بانتقاد أداء القيادة التقدمية السياسي. ولا نعني هنا الأوفياء والغيارى ممن يعبرون عن نقدهم صراحة في مجالس الحزب الخاصة، بل نقصد “الجهابذة” في العالم الافتراضي، هؤلاء الذين يحيون بمبدأ “خالف تعرف”، وبعضهم من الوصوليين التواقين إلى منصب في سلطة ينعتونها يوميا، وبعضهم الآخر من المتسلّقين على العمل السياسي “مدنياً” عبر جدران التواصل الاجتماعي، ومنهم الطامحون لشهرةٍ ما وفق المبدأ عينه، ولغاية في نفس يعقوب او “يعقوبيان”!

هؤلاء نراهم، بل نقرأهم افتراضياً يتمادون في النقد والتفسير والتحليل والتعليل لمواقف بحجم وطن تتخذها قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي واللقاء الديمقراطي النيابي من منطلق الواقعية السياسية نفسها التي لا تعني الحياد عن الثوابت، ونتابعهم في محاولات حرف انتباه القاعدة الشعبية للحزب عن أصل النضال ونزاهة الأداء، فينتقدون مثلا صورة قيادته مع خصمها الانتخابي- وهو مشهد اكثر من طبيعي بقاموس الواقعية السياسية- دون أن يعيروا أي انتباهٍ لتصويب صارخ أطلقته قيادة التقدمي نفسها بعد ساعات من “اللقاء الصورة”، سلطت فيه الضوء على مكامن الهدر في ملف الكهرباء، وأبطاله بالمناسبة هم “نجوم” الصورة المشرّفة في غير مكان بالبعد الوطني الكبير!

ولعل أكثر ما يضحك في تسلق هؤلاء على عالم السياسة هو مطالبتهم للحزب بالمعارضة من خارج السلطة، ما ينم عن جهل او تجاهل لعبر التاريخ ودروسه، وأقربها “عظة” ١٤ آذار وفشل السياسة الشوارعية في بلد معقد النظام والتركيبة السياسية كلبنان!

لا عجب، فهؤلاء كسواهم ممن سبقوهم وهم كثر، لا بد أن يعوا يوماً آنية وهشاشة تأثيرهم في قلة من ضعفاء النفوس الذين يتقنون الابتزاز بأصواتهم الناخبة وليس العكس، وعاجلاً أم آجلا سيدركون ككثيرين ممن سبقوهم في “الفصاحة السياسية” – والشهادة بلسان التاريخ وكبار السياسيين حول العالم – بأن وليد جنبلاط دوماً على حق. ولا بد ان يثبت لهم المستقبل أن المتأثرين بوليد جنبلاط وبأقوال المعلم عن ميزان الثوابت والواقع سيبقون دوماً على حق، وإن غداً لناظره قريب.

لا عجب يا هؤلاء لكن احرصوا واحترسوا.. فضيقُ الأفق والتفكير مهلك.. وقليلٌ من بُعد النظر واجب .. ليحيا لبنان!

*غنوة غازي – “الأنباء”