الشرق الأوسط الكبير عشية مئوية الحرب العالمية الأولى

إحتفل العالم بالذكرى المئوية الأولى لانتهاء الحرب العالمية الأولى، وجدد قادة وزعماء العالم من ساحة النصر في باريس قسم التزامهم بحفظ الأمن والسلام العالميين، لكن الواقع المرير والتحولات العالمية المتلاحقة على أكثر من صعيد لا تهدد الأمن والاستقرار فحسب، بل تضع مستقبل المسكونة جمعاء على حافة الانهيار، لا سيما خطر التلوث، والاحتباس الحراري، ومستوى الفقر، وسباق التسلح، والهجرة واتساع الهوة بين الشرق والغرب.

تلك المخاطر التي لم يتفق القادة والزعماء على وضع حلول لها، تضاعفت حدتها منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، واعتماده استراتيجية “أميركا أولاً”، والتي أدت إلى إطلاق الحرب التجارية على الصين وروسيا وأوروبا، وضاعفت من حركة الأساطيل العسكرية، وتصدع المنظومات الدولية التي استقرت عليها آليات التعاون بين الدول (مجموعة الثماني ومجموعة العشرين)، بعد تقدم الأحادية الأميركية وهيمنتها على القرار العالمي، إثر سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، واختلال آلية المشاركة المتوازنة في صناعة القرار العالمي داخل منظومة الأمم المتحدة، وحيث بات حلف شمال الأطلسي بمثابة القوة العسكرية الضاربة للهيمنة الأميركية.

“مجموعة الدول الثماني – 1975″ والتي تضم الدول الصناعية الكبرى منتدى للحوار بين الدول النافذة، والتي تعرف اليوم بـ”مجموعة السبع” منذ خروج روسيا منها بعد أن فرضت عليها الولايات المتحدة الأميركية رزمة عقوبات اقتصادية بسبب سيطرتها على شبه جزيرة القرم، و”مجموعة العشرين – 1999″ والتي تعرف باسم مجموعة الأزمات الدولية، والتي تشكلت عقب حرب البلقان التي هزت أوروبا، لم تتمكنا من كبح جماح الهيمنة الأميركية على العالم ولم تنجحا في الدفع نحو بناء عالم متعدد الأقطاب، لا بل فإن ما شهدناه في السنتين السابقتين من حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يعزز نظام الأحادية القطبية ويجعل من دول العالم، بما فيها مجموعتا “السبع” و”العشرين”، تتوجسان من القرارات الأميركية دون القدرة على رفضها.

وإذا ما توقفنا أمام تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في سياق الحرب التجارية على بيكين، والرد على اختراقات موسكو، لاتفاقات التسلح الخاصة بالصواريخ متوسطة المدى، حين قال “نحن نوجه تهديداً لموسكو وبيكين وأي جهة تريد اللعب معنا”، هذا التصريح الذي اعتبره البعض بمثابة تغريده من تغريدات ترامب التي “لا وزن لها”، وصل مستشار الأمن القومي جون بولتون، الأكثر تشدداً في فريق ترامب، إلى موسكو لمعالجة ما استجد على مستوى تنفيذ الاتفاقات الاستراتيجية القديمة (اتفاقيات الحد من التسلح)، واثناء خروجه من موسكو قال: “لقد ناقشنا مع الروس مشهداً استراتيجياً جديداً”.

إن تهديدات الرئيس الأميركي، وتصريحات معاونه جون بولتون، تضع المشهد الدولي أمام حالة جديدة مفادها “أن الدول التي قد تشكل تحدياً أو تهديداً لواشنطن، عسكرياً أو أمنياً أو اقتصادياً خاصة روسيا والصين، تفتح على نفسها باب الصراع الذي قد يذهب إلى حد الاستنفار العسكري، والى إعادة إطلاق سباق تسلح جديد، أو يؤدي إلى انهيارات اقتصادية خطيرة في اقتصادات تلك الدول، نتيجة الحرب التجارية التي جندت واشنطن لها بالخفاء عدداً من الدول الأوروبية لمواجهة بكين وطموحاتها الاقتصادية”.

ولعل الواقع الراهن الذي يعيشه الشرق الأوسط الكبير، من أفغانستان إلى العراق وسوريا واليمن وليبيا، والذي تتدخل واشنطن في تفاصيل توازناته وتدفع به للانضباط ضمن المشهد الاستراتيجي الجديد، والحديث هنا عن العقوبات على إيران وربطها بالدور الإيراني في المنطقة وبقدراتها الصاروخية، لا يشكل بحد ذاته بداية مرحلة جديدة من العلاقات الأميركية – الإيرانية، إنما يبين حقيقة الاتجاهات الأميركية الجديدة للاستراتيجية التي يعتمدها ترامب في علاقته مع دول العالم.

فطبيعة العقوبات الجديدة على إيران لا يمكن الوصول فيها إلى حل وسط بالمعنى الذي وصل إليه الرئيس السابق باراك أوباما عندما أبرم الاتفاق النووي، بل تفرض على إيران خيارين لا ثالث لهما، إما الاستسلام للشروط الأميركية بالكامل، أو الدخول في مواجهة تؤدي إلى إفلاس الاقتصاد الإيراني وانهياره على طريقة انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. ما يحتم النظر إلى تلك العقوبات، على أنها الحلقة الأخيرة في مسلسل العلاقات الأميركية – الإيرانية الممتد على مدار 40 عاماً، من جهة، وعصا أميركية غليظة بوجه دول العالم، لذلك نحن إزاء تطورات تختمر اختماراً عالي المستوى على مساحة الشرق الأوسط الكبير الذي تريده واشنطن أن يكون ضمن سيطرتها المطلقة وضمن نظام سياسي قابل للاستجابة الدائمة لمصالحها، ووفق رؤيتها.

لذلك فإن ما يجري في إطار العقوبات على ايران، ليس هو الحلقة الوحيدة المهمة فيه، إنما المهم أيضاً الإشارة إلى التعديل الذي يجري في سياسة وجغرافية منطقة الشرق الأوسط، وموقع ودور القوى الإقليمية وتأثرها سلباً أو إيجاباً بتلك العقوبات، وهنا لا بد من الإشارة إلى الأدوار الخاصة بكل من تركيا وروسيا وإسرائيل من جهة، والدور السعودي المصري من جهة أخرى والتي تدور جميعها وبمستويات مختلفة في فلك الموقف الأميركي.

المشهد التركي أصلح علاقاته مع أوروبا ومع أميركا، وبات بعد قمة إسطنبول واتفاقي منبج وإدلب، يجر خلفه العربة الروسية في درجة من الدرجات لمصلحة تلاقي الموقف الأميركي الأوروبي حول سوريا، فيما باتت إيران معزولة في هذا الحراك وتستعد لامتصاص ضربة العقوبات والخسارة في اليمن واختلال التوازن في العراق، وانحصار حركتها في سوريا لصالح الدور الروسي والتركي، وهي في محاولة إحداث توازن جديد يمكنها من مواجهة المرحلة المقبلة.

الدور الإسرائيلي لم يكن في يوم من الأيام على صراع مباشر مع إيران، إلاَّ على النفوذ في الشرق الأوسط، فكما تريد إيران شرق أوسط بنفوذ إيراني وملعبها الدول العربية، تريد إسرائيل شرق أوسط تنافس فيه إيران على نفوذها في الدول العربية، وهذا ما يفسر في هذه المرحلة طبيعة العلاقات الجديدة التي يتم الإعلان عنها بين إسرائيل وقطر والبحرين وعُمان وحتى مع الرياض في بعض المجالات الأمنية والعسكرية، لذلك فإن المحور العربي أمام تحدٍ ثلاثي الأبعاد على المستوى الإقليمي، تحدي الدور التركي، تحدي الدور الإيراني، تحدي الدور الإسرائيلي، وتختلف التحديات في مستوى مواجهة تلك القوى الثلاث، وحيث إن لكل طرف قوته ودوره وتاريخه وعلاقاته المختلفة مع المنطقة، لكن جوهر الحركة الإقليمية هي حركة صراع ما بين تحول التحالف العربي من قوة سلبية إلى قوة إيجابية، من قوة دفاعية إلى قوة هجومية، ومحاولة تحسين الشروط الخاصة والمنسجمة مع المصلحة العربية. وهذا يرتكز بالدرجة الأولى على التحالف السعودي المصري ومعه الإمارات وعدد من الدول العربية الأخرى، خاصة أن المملكة العربية السعودية بدأت تتلمس عناصر قوتها الذاتية، وباتت تطمح إلى ممارسة دورها كقوة إقليمية فاعلة ليس فقط على المسرح الشرق أوسطي، بل قوة إقليمية فاعلة على المستوى الدولي.

يمكن القول إن الصراع المفتوح في الشرق الأوسط، يحتمل الوصول إلى نهايات ليست سيئة بالضرورة، وليست جيدة كما يريدها البعض ممن يجهلون شروط الهيمنة الأميركية على العالم، وعلى الشرق الأوسط، لكن يمكن تحت هذه المظلة تعديل تلك الشروط بما يتناسب والمصالح الوطنية، لشعوب ودول المنطقة من مصر إلى السعودية وفلسطين وسوريا والعراق وغيرها، والقضية هنا مرتبطة بالسياسة التي ينتهجها التحالف العربي، وأي سياسة يمكن التعامل فيها مع واشنطن، التي تفرض شروطها القاسية على مختلف الكتل الدولية من أوروبا إلى روسيا والصين إلى المنطقة العربية أيضاً، وأي سياسة يمكن أن بنهجها هذا التحالف في صراعه المفتوح مع المشاريع الإسرائيلية والتركية والإيرانية، الأمور مفتوحة على عدة احتمالات، وما زالت حركة الصراع في أوجها ولا يمكن الحسم بها لطالما أن القضايا الأساسية لم تصل إلى خواتيمها في سوريا، وفلسطين، واليمن، وليبيا، لذلك علينا ترقب الأحداث الراهنة وتحولاتها المستمرة في المنطقة والعالم، والتي تشبه في كثير من أزماتها ما كانت عليه عشية الحرب الكونية الأولى مع تبدل أسماء وأحجام اللاعبين.

فوزي أبو ذياب- “الأنباء”